تأملات وجدانية: في الخميس الأسود و«الباص» الأحمر

TT

لـ «الباص» الأحمر اللون بطبقتيه وتميزه عن سائر «باصات» العالم مكانة في ذاكرة من يدخل لندن بسلام آمناً، او من تفرض عليه وطأة الظروف في الديار العربية من المحيط الى الخليج العيش في هذه المدينة التي لا مثيل للحنان الذي تضفيه على كرامة الذي يحترم الاصول، وعلى صحته وعلى سلامته، وتُبعد عنه هواجس الخوف على مستقبل ابنائه اذا هو أجاد التربية والنصح.

ولـ «الأندر غراوند» المبرمَج بحيث يصل ركابه الى اعمالهم في الوقت المناسب، وإلى الشوارع التي تصطف على جانبيها المحلات والمراكز التجارية على انواعها، ومِنْ وإلى المطارات اللندنية مع مراعاة لما في الجيْب، مكانة هو الآخر في ذاكرة من يزور ومن يغادر ومن يتنقل من منطقة الى منطقة.

ولقد ادخل الآباء والأمهات البهجة الى الابناء والأحفاد عندما كانوا يتنقلون بـ «الباص» الأحمر و«الأندر غراوند». وتزايدت البهجة اتساعاً مع شرائهما في شكل نموذج مصغَّر، يأخذ مكانه في صدارة مقتنيات الذكريات الجميلة. وكم مِنْ مرة كان الأب يسأل طفله، اي هدية تريد من لندن، ويأتي الجواب بأنه يريد «الباص» الأحمر و«الأندرغراوند». وحتى من دون السؤال والجواب فإن هذه الهدية تتقدم على غيرها من الهدايا.

ومن دون ان يتعمد المرء افتعال مشاعر، فإن هذا «الباص» وذاك «الأندر غراوند» يتحول في نظر الذي يعيش في لندن طويلاً الى حالة يشعر فيها المرء أن هاتين الوسيلتين ليستا مجرد قضاء حاجة للنقل، وإنما هما مثل البيت. ولذا فإن اهميتهما تصل الى مرتبة الشعور بملكية معنوية لـ«الباص» او «الأندر غراوند».

ومن هنا فإن الذي يصيب المرء وهو يسمع ويرى ما حدث في الخميس اللندني الأسود (7/7/2005)، ليس مجرد دهشة او مجرد غضب، وإنما بأن جزءاً من ذكرياته الجميلة اصابه التهشُّم وعلى نحو تهشُّم لوحة او مزهرية جميلة. بل يشعر بأنه غدا مستهدَف من خلال تفجير ذلك «الباص» الاحمر، وبأن الصغار الذين يقتنون «الباصات» الرمزية الصغيرة سيشعرون بأن هنالك من يريد سرقة احلامهم من خلال التفجير، وان الذي اصاب الذين في «الباص» الاحمر بالقرب من «راسل سكوير»، كان يمكن ان يصيبهم وعلى هذا الاساس فإنهم مستهدَفون. ولو ان الذين وضعوا المتفجرات ادركوا اي حالة حزن سيعيشها الصغار من اخوة وأخوات وأبناء وبنات عاشوا متعة الانتقال من البيت الى المدرسة، او الى احدى حدائق لندن المترامية الاخضرار على مدار السنة، او الى التسوق مع الأهل لأنهم رأوا فجأة المشهد المروع، لما كانوا تجرأوا على الفتك بهذا الرمز الجميل وبتلك الارواح البريئة. ولكن هؤلاء لم يدركوا وتناسوا اللحظات الجميلة من طفولتهم واقترفوا الذنب الذي لا يغفره الله والرسل. ففي «الباص» الأحمر كان هنالك ربما بعض رفاق المدرسة التي تلقوا فيها العلم مجاناً على نفقة الحكومة، وفي «الأندر غراوند» كان هنالك ربما بعض المدرسين والمدرسات الذين علموهم وربما بعض الاطباء الذين عالجوا صحتهم على نفقة الحكومة وأمدوهم بالدواء والمقويات التي تمنع الهزال من الفتك بأجسادهم، وربما بعض الممرضات اللواتي سهرن في المستشفى الحكومي الذي لا يقفل باباً في وجه مصاب غير مشترط كما الحال في الكثير من ديار العالم الثالث، دفع مبلغ غير موجود اصلاً، وربما كان هنالك بعض الأهل والأقارب ذلك ان لندن شأنها شأن كل المدن والبلدات الريفية البريطانية فاتحة الاذرع في استمرار للجميع يعملون وينشطون ويتظاهرون، ويتثقفون ويعوِّضون الحرمان الذي طالما قاساه الآباء والأجداد في البلد الاصلي. وبالأهمية نفسها للاحتمالات التي اوردناها ربما كان في «الباص» الأحمر او في «الأندر غراوند» بعض رجال الشرطة الذين يسهرون على راحة الجميع من دون استثناء او تمييز بين ابيض واسود وبين اشقر واصفر، ذلك انه بموجب الناموس البريطاني لا فضل لبريطاني على الآخرين، إلاَّ بمراعاة الاصول واحترام القوانين وعدم التهرب من الضرائب. وبالأهمية نفسها ايضاً ربما كان في «الباص» الأحمر او في «الأندر غراوند» المئات من المتوجهين الى المطار او العائدين منه على خط «البيكاديللي»، وربما ايضاً بعض الموظفين العاملين في ادارة منح الجوازات البريطانية لغير ابناء المملكة المتحدة، ومن دون التأفف من ان حامل الجواز الممنوح من ملكة البلاد إليزابيث الثانية هو من أي من بلاد الدنيا بجهاتها الأربع. فنحن هنا في بريطانيا عاصمة شعوب العالم المغلوب على امره وتحت شعار اهلاً بكم في وطنكم الثاني. ونحن هنا لا نتحدث عن حالات الاقامة كلاجئين سياسيين، وإنما عن الذين يصبحون خلال اربع سنوات من الاقامة الصالحة يحملون جواز السفر البريطاني الذي يغنيهم عن اهانات لا حصر لها.

لن نضيف المزيد من التأملات الوجدانية، الواقعية في الوقت نفسه، فهي كثيرة. ولكن الذي نستخلصه منها امرين. الاول هو أن دور الأسرة الوافدة هو ترسيخ اهمية احترام الحقوق التي للوطن الثاني في نفوس الأبناء الذين ينشأ ون في هذا الوطن او يولدون فيه، وليس فقط اعتبار منافع المواطَنة الثانية هي كل شيء. وعندما يترسخ احترام هذه الحقوق في النفوس، لا يعود هذا الفتى او ذاك يقتنع بأن النعيم الحقيقي ليس في «ليدز» او «لندن»، وان الموكب الملائكي سيزفه الى «الحور العين» اللواتي ينتظرنه في رحاب رب العالمين، ومن دون الالتزام بشرعية الزواج من أربع وتجاوز مسألة عدم العدل بينهن.. انما مقابل أن يفجِّر نفسه داخل «الباص» الأحمر او في محطة القطارات او حتى داخل عربة من عربات «الأندر غراوند» ومِنْ دون ان يستوقفه ان هنالك ارواحاً حرَّم الله والأديان والأنبياء قتلها. اما الأمر الثاني فهو أن العلاج النفسي للمسألة من جانب الحكومة البريطانية، والمشهود ببراعته للأخصائيين الانجليز في الطب النفسي، هو المطلوب وقبل العلاج الانفعالي وفورة الغضب، عِلْماً بأن هذا الغضب مشروع، ولكن محاذيره كثيرة ما دامت حلقات غسل الأدمغة في باكستان وغيرها باتت على الازدهار الذي نلاحظه، وبات فتية الجيل الجديد مستعدين لاستيعاب موجبات العمليات الانتحارية، أكثر من توقهم الى رياضة «الكريكيت» في ملاعب كراتشي واسلام اباد ولندن وسائر بقاع الريف البريطاني.