.. حين يسجن الماضي حاضر الجميع..!

TT

شعر الأميركيون أنهم أحرار لمناقشة ما إذا كانوا يريدون أن يكونوا طرفا في نزاعات الشرق الأوسط الكبير منذ عام 1967. والحديث دار حول الأيام القديمة.

كان الإدمان الوطني على استيراد النفط قد أنهى تلك الحرية أو على الأقل ذلك الوهم. فالالتزام الأحادي الجانب لمساعدة إسرائيل على البقاء، في بحر من العداوة لها، قد لعب أيضا دورا في ذلك.

ومن هنا فعلى واشنطن أن تؤسس تاريخا قوميا لها في منطقة كانت ذات يوم تركت الآخرين ليحلوا لها ما فيها من مشاكل.

فحينما أعلنت بريطانيا انتهاء وجودها في «شرق السويس» عام 1967، وحثت واشنطن على ملء الفراغ انزعج صناع القرار الأميركيون من ذلك الطلب وعارضوه. وحتى يونيو من نفس السنة كانت إسرائيل تعتمد على فرنسا أكثر من واشنطن في شراء أسلحتها وفي تعاونها النووي. أما العراق فكان ضمن النفوذ السوفيتي بينما إيران كانت مزدهرة تحت حاكم يحظى بدعم أميركا.

لم يكن توازن القوى مثاليا هناك. لكن مع وجودي في تلك المنطقة آنذاك شعرت أن لواشنطن أفضلية كبيرة: كان على الاتحاد السوفيتي أن يتغلب على تاريخ استعماري مرير فيما كان على بريطانيا وفرنسا وتركيا أن تعمل بجهد كبير مع العرب. وكانت شكوك أميركا تجاه تلك الإمبراطوريات الاستعمارية ذات فائدة كبيرة لصالحها. لكن احتلال إسرائيل للأراضي العربية عام 1967، وأزمة النفط عام 1973، وإسقاط شاه إيران، والحربين العدوانيتين اللتين شنهما صدام حسين، وهجمات11سبتمبر 2001 وأحداثا أخرى غير كل ذلك، لم تجعل من الحوار الأميركي قابلا لأن يكون حول ما إذا كان يجب لواشنطن أن تكون طرفا فيه أو لا، وإنما حول الكيفية التي يجب أن يتم فيها هذا الاشتراك ومساره.

ينشئ الأميركيون تاريخا لا يتضمن فقط نتائج فورية، وإنما نتائج لم يكن قد شعر بها أحد لسنوات كثيرة. وهذا هو أحد الدروس الثانوية بل والبارزة التي يجب أن تكسبها واشنطن. والى ذلك، فمن بين 4 تفجيرات وقعت في لندن يوم 7 يوليو، قام بثلاثة منها مواطنون بريطانيون من أصل باكستاني، وقد جاء عدد كبير من المسلمين ليقيموا في العواصم الأوروبية التي تعود للإمبراطوريات الاستعمارية السابقة.

كتب أيم سيزير المؤلف السريالي من المارتينيك مسرحية يقوم رجال العصابات الأفارقة فيها بالتحرك إلى باريس ويفجرون تماثيل جنود ومبشرين ينتمون إلى الحقبة الاستعمارية. لكن ما عاد ممكنا القيام بذلك اليوم: إنهم الناس لا التماثيل الذين يتم تفجيرهم لترك تأثير رمزي ما.

وأفلح عمل سيزير في إلقاء الضوء على العلاقات المشوهة بين المستعمِر والمستعمَر اللذين باتا غارقين في أنهار دماء بعضهما.

لا تسيئوا الفهم. فهذه ليست مقارنة بين مهمة أميركا الحالية في الشرق الأوسط الكبير والفتوحات الكولونيالية في الماضي. فاختفاء الجدل المصطنع قبل عام حول الرغبة في «امبراطورية أميركية جديدة» من على صفحات صحف البلاد يظهر ضحالة هذا النمط من التفكير.

ولكن من قصر النظر أيضا ان يجري تجاهل كلي لدلالات تبني هذه المهمة البعيدة المدى، في بلدان حيث تجربة الامبراطورية حديثة، وحيث تلك التجربة صيغت بطريقة مضللة وسطحية لنوعية الشر الأجنبي واستغلاله من جانب واحد.

فالامبراطورية أكثر تعقيدا بكثير مما تشير اليه معظم القصص القومية، ويظهر هذا من التناقض الذي طرحه اختيار لندن لاستضافة أولمبياد عام 2012 والتفجيرات المروعة في المدينة ذاتها في اليوم التالي.

وباللعب ببراعة على تاريخ لندن كمدينة متعددة الثقافات لكل الأجناس والأديان، فان منظمي العرض البريطاني ابعدوا لجنة الاختيار الأولمبية عن اطراء فرنسا المبرر لباريس، باعتبارها موقعا وطنيا جميلا وراقيا. وقد نشرت بريطانيا مزايا الامبراطورية للفوز في المنافسة. أما فرنسا فقد لعبت على متع المملكة فخسرت. ويعترف اختيار لندن ضمنيا بمزايا الصلات الانسانية حتى في قناع كولونيالي. وقد طور ايميه سيزير وليوبولد سنغور وروجا فلسفة الجمال في اللغة الفرنسية التي أتقنها في باريس. وقد أقيم اقتصاد كينيا المتين على أسس بريطانية، ولدى ديمقراطية الهند جذور عميقة في التجربة الكولونيالية، وهكذا.

وما من شيء أنقذ الكولونيالية التي لم تكن معززة اخلاقيا واقتصاديا. والحقيقة ان انهاء الكولونيالية ساعد على تغذية النمو الدراماتيكي في أوروبا مما اجتذب السكان المهاجرين من أفريقيا وآسيا ليجرى استيعابهم بطريقة غير سليمة خلال نصف القرن الماضي. لقد فقدنا نحن الأميركيين البراءة التي كنا قد ادعيناها ذات يوم في الشرق الأوسط. ويمكننا أن نجادل بشأن ما اذا كانت الخسارة مرتبطة بحتمية تاريخية أو قرارات متسرعة أو طموح بطولي أو، كما أرتاب، توليفة من كل هذه العوامل. ولكننا لا نستطيع اعادة عقارب الساعة الى الوراء ونتظاهر بأنه ليس لدينا خيار سوى ادارة ذلك التورط على أفضل نحو ممكن.

*خدمة «مجموعة كتاب واشنطن بوست» (خاص بـ «الشرق الأوسط»)