كلنا سيد القمني

TT

فقهاء، ومحدثون، ومفكرون، وكتاب، كلهم مروا بمثل مأساة سيد القمني، المفكر المصري الذي اذاع نبأ توقفه عن الكتابة خوفا على حياته وأطفاله، بعد تهديدات تلقاها من جماعات متطرفة. كلهم عاشوا نفس اجواء الخوف، وساروا عبر نفس الطريق، واعتزلوا فكرهم قهرا، باستثناء انهم لم يصدروا بيانات او يذيعوا اعترافاتهم بالخوف..

ومن ابرز تطورات هجمة التخويف انها لم تعد تهتم بعموم الكتاب والمفكرين بل صار هدفها المفضل مجتمع علماء الدين. فالكثير من المفتين والأئمة والفقهاء تعرضوا، ربما اكثر من غيرهم، للتخويف من خلال خطب علنية تهزأ بهم تارة وتهددهم تارة أخرى. اكثر من شيخ أسر بأنه تعرض للتهديد، واحدهم قال ان التهديدات صارت تصله عبر رسائل هاتفية. النتيجة مؤسفة لأن قلة من الكتاب التي تعرضت للتخويف استمرت متمسكة برأيها، في حين ان فئة منهم صارت تتحاشى معالجة القضايا التي يمكن ان تثير المتاعب ضدها.

اما بعضهم فقد انساق وراء رغبة من هددهم فبدلوا لغتهم ومواقفهم، وصارت لهم لغتان واحدة علنية والأخرى سرية يتداولونها فقط في بيوتهم. والضغوط ليست بالضرورة رسائل تهديد الكترونية، فهي تمارس بصيغ مختلفة من بينها التلويح بسيف التكفير، وهناك ضغوط الاحراج الشخصية او الاجتماعية التي تستنكر على الكاتب رأيه وتعيره بما يقوله وتعزله من محيطه، وتهاجمه من على المنابر وتحرض عليه.

سيد القمني فعل ما سبقه إليه عشرات المؤلفين والكتاب، فتوارى في الظل وبدل اهتماماته، وهو امر مفهوم في الظرف النفسي الذي وضعوه فيه ، لكنه ارتكب خطأ ليس بالهين عندما قبل ان يجعلوا منه اداة لنشر الخوف واشاعة الاحباط. فالقمني تجاوز توقفه عن الكتابة الى التصريح عنه علانية، محدثا هذه الضجة الاعلامية، فكان بذلك خير معين للمتطرفين. ولا اود ان اقول ما قاله محامي الاسلاميين ان التهديدات كانت «لعب عيال»، لأن أي تهديد يجب ان يؤخذ على محمل الجد، انما كان بامكانه ان ينسحب بصمت او يعلن عن توقفه عن الكتابة بدون الترويج للجريمة نفسها.

فنحن في الساحة العربية نعيش في مناخ عام يكمم افواه الكتاب، بدأ منذ الثمانينات في اعقاب ظهور المتطرفين على سطح الاحداث، في اعقاب نجاح الثورة الايرانية. وصار همُّ معظم المتطرفين العرب ملاحقة اصحاب الآراء والكتاب ومؤلفي الروايات والسينمائيين، وحديثا جدا اضافوا الى القائمة الائمة وعلماء الدين المعتدلين، مستخدمين الاسلوب نفسه، التهديد العلني والمبطن.

وما لم يتضامن المجتمع بفئاته المختلفة ضد ظاهرة التخويف والتكفير والتخوين والتهديد المباشر، فان العديد من امثال سيد القمني سيعلنون اعتزالهم. واذا كان يسر البعض ان يروا مفكرا كالقمني يغادر الساحة، فإنهم يفتحون على انفسهم النار نفسها. وكما رأينا فالتهديدات لم تتوقف عند فئة واحدة ، بل وصلت الى اعلى السلم ومست علماء دين كبار ومفكرين اسلاميين أيضا. فكل متطرف ستجد على يمينه متطرفا آخر.

[email protected]