بيروت (2)

TT

أفتش عن بيروت في بيروت، فلا أجد بيروت التي عرفتها والتي سحرتنا في مراهقتنا حين كانت الحرب تشتعل، أتعرف على أحيائها وأسمائها التي وردت في أخبار الحرب المجنونة. حرب الطوائف، وحرب الأحياء، وحرب المذاهب، وحرب الدول، برج البراجنة، الأشرفيه، وبرج رزق، وبرج المر، وعين التينة، عين الرمانة، كنا نترحم على اسمائها الجميلة، الملونة بالرمان والتين والتفاح، التي لا تشبه اسماءنا! أشاهد زخرفة الرصاص في بقايا العمارات التي تركها أهلها دون أن يجروا لها عمليات تجميلية تخفي بشاعة الحرب عنا. كان لبيروت سحر، نظن أن الحرب حجبته عنا، وحرمتنا منه، وكلما ازدادت الصورة غموضا زاد سحرها!

بيروت لم تكن كالقاهرة ، فمصر طرحت ثيابها، واستراحت بيننا، تروي أسرارها الصور الكثيفة، التي تنقلها بغزارة المسلسلات المصرية، والأغاني المصرية، والمدرسون المصريون، والعمال المصريون، اللهجة المصرية، روايات نجيب محفوظ، ويوسف ادريس، مقالات انيس منصور، وهيكل، اشبعتنا، بكل الأجوبة لكل الأسئلة الفضولية عن مصر، فصارت من شدة قربها كأنها حارة مجاورة. لكن بيروت البعيدة بصراعاتها الغامضة وأحزابها الثائرة عصية على التفسير بالنسبة لنا، زادها سحرا، كتابها وشعراؤها، انسي الحاج، خليل الحاوي، الياس الخوري، حنان الشيخ، وغادة السمان وهي تكتب عن بيروت، فيروز التي لا يعتبر المثقف مثقفا ان لم تكن مطربته المفضلة، أغانيها وصورها الرقيقة (يا دارة دوري فينا ظلي دوري فينا، وتعى نتخبا عن درب الاعمار وإذا هني كبروا نظل صغار)!

كانت الكتب التي تطبع في بيروت لها فخامة مختلفة عن تلك التي تطبع في مصر، لأن بيروت عقدة من السحر في الأخيلة يرويه كتابها، بتحررهم، وتفرنسهم، وعروبتهم واختلاطهم بالمذاهب المتعددة، كلهم يبكون كالأغاني الحزينة عن بلد يضيع ويحتضر، بلد تأكله الحرب وتمزق شعبه وتهجره، ونحن المراهقين المهمومين بالشعر والغناء والبحث عن العدالة على الارض، لا نطيق بكاء كهذا، فنحب معهم بيروت العربية كحبهم لها، ونأسى لفقدها!

أفتش عن بيروت في مقاهي الحوارات اليسارية والقومية والوطنية، واحاديث الوحدة الوطنية، والديمقراطية، فلا أجد غير الجاهلية الأولى وحرب الحقائب الوزارية وتقسيماتها الحزبية والمذهبية، وقنابل تثور حين تغير يد رسم الخريطة، أفتش عن بيروت في نكات ابو سطيف، وابو العبد فلا أجد غير نكتة هيفاء وهبي تغني (رجب حوش صحبك عني)!

في صالة الرياضة الفاخرة، تضج سيدة لآخرى، رح يجلطونا بها الفواتير، ألف دولار حق الكهرباء، لا مي ولا كهرباء، وضرايب.. على شو؟! فتقول الأخرى: ياختي اذا حكومة ما في!.. بدك مي وكهرباء!

السيدة تحدث بائع البقالة عن تفجير على الشاطئ تسبب فيه زوج يشك في زوجته، تسأله: دخلك هو كل واحد بيشك بمرته بيفجرا؟!

رد البائع الآخر: ايه.. بدكن تديروا بالكن!

لكن تظل بيروت أكثر بلد مفتوح للشمس والحرية والتذوق الحر، تستطيع أن تقرأه وتلمسه وتحس فيه، وتخلتف معه، وتحبه، لو كففت عن التعاطي معه كمجتمع مقاه ومطاعم سياحية واسواق، حيث لا يشكو أحد هناك طالما أنك تدفع بالدولار السخي!

[email protected]