اللبنانيون لم يفرّقوا ما بين المافيا والشعب السوري

TT

من خلال ما يجري على الحدود اللبنانية ـ السورية، وما تتعرض له الشاحنات اللبنانية، وما يجري في عرض البحر من مصادرة فرق خفر السواحل السورية لزوارق الصيد اللبنانية، وتأكيد وزير النقل السوري مكرم عبيد على أن الفعل السوري قانوني لأن الزوارق دخلت المياه الإقليمية السورية، يتبين ان الضغوط الدولية على سوريا، تعكسها هي ضغوطاً اقتصادية على لبنان، من منطلقين، الأول أن دمشق لا تعرف حتى الآن الأبعاد النهائية للضغوط الدولية عليها، وإن كان اراحها تصريح وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في24 من الشهر الماضي بأن الادارة الأميركية لا تفكر بتغيير النظام في دمشق، والثاني أن هذا قد دفع بالمسؤولين السوريين الى «التصرف»، كما المسؤولين اللبنانيين، عندما لم يفرقوا ما بين مسؤولين سوريين، سياسيين وأمنيين، وما بين الشعب السوري.

ما يحّير المسؤولين السوريين، هو أن الضغوط الدولية كما يرونها، هي عبارة عن جمع حسابي لـ«ضغوط لا نستطيع أن نرى فيها صورة متكاملة»، كما ينقل لي احد المصادر السورية، خصوصاً ان هذه الضغوط بحد ذاتها متناقضة، لكنها كلها موجودة، بمعنى ان أي طرف اميركي، يريد ان يضع الضغوط على سوريا يضيفها بطريقة حسابية على بقية الضغوط. وحسب دمشق،هناك ما بين ستة وسبعة عناصر في تركيبة الإدارة الأميركية، يضاف الى ذلك سوء الفهم الصعب ما بين دمشق وواشنطن، فلا سوريا، حسب المصدر تدرك ما تقصده واشنطن، ولا أميركا تدرك ما تعنيه دمشق! اما عناصر الإدارة الأميركية حسب الرؤية السورية فهي كالتالي: هناك الرئيس جورج دبليو بوش ووزيرة الخارجية رايس، وهناك نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ثم هناك كارتيل النفط، واللوبي المسيحي الإنجيلي، وهناك اللوبي اليهودي والمحافظون الجدد وبقية الجمهوريين، وهناك الديموقراطيون ولوبي لبناني صغير.

يرى المصدر السوري أن المحافظين الجدد هم أصحاب نظرية سحب الغطاء عن طاولة الشرق الأوسط، ليسقط كل شيء بشكل مختلف فيبرز وضع جديد قد يمّكن الأميركيين من السيطرة على المنطقة بشكل أفضل، لأنهم لا يستطيعون السيطرة على الوضع الحالي، ويقول: «هذه هي المعادلة التي يسمّونها: الفوضى المنظمة. وقد برزت المفارقة بينهم وبين الرئيس بوش في العراق، فالمحافظون الجدد لا يهمهم استتباب السلام في العراق، بل يهمهم التسبب بفوضى وفوضى أخرى في كل الشرق الأوسط حتى يبرز الوضع الجديد، في حين تتطلع إدارة بوش الى السلام في العراق وتريد الهدوء فيه، هنا نحن أمام طرحين متناقضين.

أما الإنجيليون فإنهم، كما تقرأ دمشق، يريدون طرد العرب من فلسطين لاعتقادهم بقرب عودة السيد المسيح، ويريدون بالتالي إخراج المسلمين وكل قوة يمكن ان تترك نفوذها على فلسطين، وهذا يشمل سوريا، وسيلي ذلك إبعاد اليهود عن فلسطين، أو تحويلهم عن الدين اليهودي، ولأنه لا يمكن إقناع اليهودي بالتخلي عن ديانته، لا يبقى سوى إبعاده، ويدخل هنا حسب المصدر السوري، اللوبي اليهودي الذي يتطلع الى الإنجيليين كحلفاء، طالما انهم يريدون إبعاد العرب والمسلمين، لكن إذا ما وصلوا الى وضع يقتربون من تحقيق الفوز، يتدخل عندها اللوبي اليهودي لردعهم، وبالطبع فاللوبي اليهودي أقوى من الإنجيليين. ويصل الحوار الى كارتيل النفط الذي يريد، حسب المصدر،ان تنتشر القوات الأميركية على منابع النفط لأن الدول لا تعني له شيئاً، وتجّمع شركات النفط يفضل شرق أوسط مكّون من جزر تقبع على بحيرات نفطية، وحسب محدثي السوري، فإن تشيني ورامسفيلد «أكثر واقعية»، لأنهما يريدان المحافظة على عظمة الولايات المتحدة، ويريدان النجاح عسكرياً في العراق، في حين تريد الإدارة إيجاد ميكانيكية خروج وتتحدث بالتالي عن الحرية والديموقراطية.

وسط هذه العوامل ترى سوريا أن التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري هو وسيلة ضغط «يمكن لأي عنصر من هذه العناصر استعمالها لمزيد من الضغط على دمشق، وإذا كان في استطاعة أي من هذه العناصر التأثير على التحقيق بطريقة تؤذي سوريا، فإنه لن يتردد».

هناك في سوريا من يعتبر أن الانسحاب من لبنان كان فقط قراراً سورياً تأخر تنفيذه، ومع الخروج العسكري والأمني بعد «إقامة» دامت ثلاثين عاماً تقريبا، يراهن بعض المسؤولين السوريين على أن اللبنانيين سيعودون الى دمشق لأنهم «لا يمكنهم الاستمرار من دوننا»، ويخففون من وقع نتائج الانتخابات على أساس ان حزب الله وحركة أمل ووليد جنبلاط لا يزالون كما هم،المسيحيون غيّروا قياداتهم، اما فريق الحريري فكسب 20% اكثر في البرلمان وخرج الموالون الآخرون لسوريا، هذا يعني، كما تحسب دمشق،أن 20% فقط غيّروا مواقعهم، وهي في انتظار عودة بقية اللبنانيين،خصوصاً، كما تشير المصادر السورية، الى أن وليد جنبلاط يجري محاولات حثيثة لإعادة العلاقات بين المختارة ودمشق، ويطلعني محدثي على تصريحات اعطاها جنبلاط لصحيفة «ذي أوستراليان» في 18 الجاري جاء فيها: «لا يمكننا ان نبقى، او نُسمى: المعادون لسوريا(...) لقد كنت واحداً من الأساسيين وأكبر حلفاء سوريا، لكن عندما طلبت منا التجديد للحود (الرئيس اللبناني)، قلت لهم، لا. ويرفض محدثي إبلاغي برد الفعل السوري على هذه ـ الوساطات ـ، لكنه يرفض الاتهام بان بلاده تغلق الحدود في وجه الاقتصاد اللبناني، ويربط ذلك بالممارسات الأمنية السورية. لكني، علمت أن معركة جبل قاسيون، التي وقعت مؤخراً دارت بين متمردين سوريين والحرس الجمهوري، وليس بين «عرب متطرفين» كما قالت المصادر السورية، وكان ذلك لإظهار أن سوريا عرضة هي الأخرى للإرهاب، ولحث إدارة الرئيس الأميركي على التخلي عن سياسة العزل المتخذة ضد سوريا. ويشكو محدثي المصدر السوري، من أن الإجراءات السورية ليست أكثر من رد فعل على التصرف اللبناني، ويقول: «انهم (اللبنانيون) يعذبون المسافرين السوريين، لقد هلكتنا الفضائيات اللبنانية، بقولها إن الاتفاقيات الموقعة بين البلدين هي لصالح سوريا، ولم يعد اللبنانيون يفرّقون ما بين المافيا والشعب السوري، انهم يرجمون السوريين بالشتائم منذ ثلاثة أشهر، الدلع له حدود. ويضيف محدثي، إذا كان رستم غزالة ضايق السياسيين، لماذا لا يطلب لبنان محاكمته، بدل إنزال الشتائم بالشعب السوري..

ويبدو كأن الإجراءات السورية الأخيرة، لمعاقبة لبنان واللبنانيين اتخذت لتهدئة غضب الشعب السوري والتخفيف من الاحتقان الذي يشعر به على مختلف الأصعدة، وقد يكون المسؤولون في دمشق رأوا في هذه الإجراءات وسيلة لتحويل أنظار الشعب السوري عن الترتيبات التي تسعى دمشق لاتخاذها تخلصاً من الضغوط الدولية، وتأجيل الاستحقاقات الداخلية الكثيرة، لكنها تبقى خطوة هروب الى الأمام. ويتخوف الإصلاحيون في سوريا من ان تنعكس كل هذه الإجراءات ضدهم، لأنه ممنوع في سوريا أن ينشر الناس ردود فعلهم في الصحف، او ان «يشتموا» لبنان أو أي دولة عربية، لا بل، وبسبب قانون الطوارئ، هناك قرار بالسجن 30 يوماً لأي سوري يجرؤ على إهانة لبنان. ويروي السوريون ان الناس في بلادهم يشتمون اللبنانيين بين بعضهم بعضا عبر الرسائل الهاتفية، ويخبرني أحدهم، أنني كلبناني إذا زرت دمشق اليوم لن أشعر بأي ردة فعل، «ليس لأن كل الناس يحبون اللبنانيين، أكيد هناك من يحب اللبنانيين، إنما الأكيد أيضاً، أن هناك من يريد أن يشتم لبنان واللبنانيين إنما لا يجرؤ».

من جهته يعترف المصدر السوري بما فعلته الأجهزة الأمنية في لبنان، لكنه يضيف: انها حكمت لبنان كما تحكم سوريا، إذ كيف يطبّقون حكم نظام ديمقراطي وهم لم يسمعوا به إطلاقاً، وهل اعتقد اللبنانيون أن الأجهزة السورية هي النرويج تساعد السويد؟ الآن أي موظف سوري يتخذ إجراءات ضد اللبنانيين، يصفق له السوريون من اعماق قلوبهم، وكان السوريون لاحظوا أن الفضائيات اللبنانية المفترض أنها مع دمشق، مثل «المنار» والـ «ان بي ان»، سكتت في المرحلة السابقة ولم تدافع، ويلاحظون أيضاً، أنها عادت الآن الى مواقفها المتوقعة، ومعها الـ «نيو تي في».