لماذا خسرت أمريكا معركة الأفكار..؟

TT

تذهب دانيالا بلتكا نائبة رئيس مركز السياسات الخارجية والدفاعية في معهد أمريكان أنتربرايز في مقالة لها في صحيفة «فايناشيال تايمز» (29 يونيو 2005) حول آفاق التحول الديمقراطي في العالم العربي، إلى أن هذه الآفاق واعدة وحقيقية، كما تبين مؤشرات الوضع السياسي في عدة بلدان، منها على الأخص العراق والكويت ولبنان.

بيد أن بلتكا ترى أن هذا التحول لم يكن ليحدث لولا الضغوط الأمريكية الصريحة والصارمة التي برزت من خلال عدة مبادرات أعلنها الرئيس بوش نفسه، في مناسبات متتالية منذ حرب العراق الأخيرة، متعهدا بإحداث تغيير ديمقراطي حقيقي في المنطقة، التي لا تزال الاستثناء الأوحد في عالم انحسر فيه الاستبداد وتسارعت فيه وتيرة الحرية.

بيد أن بلتكا تلاحظ نمطا من الانفصام بين هذا الالتزام السياسي والأخلاقي الذي تعهد به رأس السلطة، وبين مسلك الجهاز الدبلوماسي الأمريكي، الذي لا تزال تهيمن عليه مقولات الواقعية البراغماتية، التي تعطي الأولوية لاستقرار الأنظمة الحليفة على مقتضيات الإصلاح السياسي.

وترى الباحثة الأمريكية أن هذا الانفصام تتولد عنه نتيجتان سلبيتان، هما من جهة إضعاف دنياميكية التحول الداخلي، بالتخلي عن الإصلاحيين ومناضلي الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن جهة أخرى تقويض الصدقية الأخلاقية للمشروع الأمريكي، بنعته بممارسة ازداوجية المعايير واستخدام المبادئ المثالية لخدمة المواقف السياسية الآنية.

ولا شك أن مقالة بلتكا على ثغراتها وهناتها الكثيرة تعبر عن جانب من جوانب المأزق الحقيقي، الذي تعاني منه حاليا الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، على أصعد عديدة.

ولسنا بحاجة إلى إفاضة القول في المأزق العسكري والأمني الذي يواجه قوات الاحتلال الأمريكية في العراق، وما يصاحب هذا المـأزق من نضوب «شرعية» الحرب في الرأي العام الأمريكي، ولدى بعض اتجاهات الرأي العام العراقي التي تحمست في البداية للحرب بصفتها حرب تحرير من الاستبداد والطغيان.

بيد أن الفشل الأبرز الذي واجه السياسية الأمريكية في المنطقة، يتمثل في اخفاقها في حرب الأفكار التي أطلقتها الإدارة المحافظة ومراكز الرأي والقرار الموالية لها، إثر تفاعلات أحداث 11 سبتمبر وحربي أفغانستان والعراق.

وتتمحور هذه الحرب التي تستهدف العالم الإسلامي حول ثلاثة أفكار أساسية هي:

أولا: تحويل صورة الولايات المتحدة من نموذج القوّة العدوانية المناوئة للعرب والمسلمين، إلى صورة القوة المحررة من الطغيان والاستبداد، والساعية لجلب الأمن والسلم والاستقرار للمنطقة.

ثانيا: تشجيع العرب والمسلمين على القيام بإصلاح ديني وثقافي عميق، يستأصل جذور الإرهاب الفكرية والعقدية، ويستبطن قيم التحديث والليبرالية المتصالحة مع القيم الروحية، وإبراز تجربة التحديث الأمريكية نموذجا للاحتذاء في مقابل التجربة الأوروبية التي ارتبط فيها الإصلاح والتحديث بالعلمانية ومحاربة الدين.

ثالثا: التحالف مع قوى التغيير المحلية من حركات إصلاحية ومجتمع مدني وقوى معارضة، لدفع مسار التحول السياسي والاجتماعي وحمايته من بطش ومصادرة الأنظمة، باعتبار أن الولايات المتحدة هي وحدها القادرة على ممارسة الضغوط اللازمة على الحكومات العربية، لتحصين وتأمين ديناميكية الإصلاح.

وعلى الرغم من العديد من المبادرات السياسية والإعلامية والفكرية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية وخصصت لها مبالغ مالية معتبرة، إلا أن كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم أقروا بوضوح أن الولايات المتحدة قد خسرت حرب الصورة، ولم تفلح في الوصول إلى قلوب العرب والمسلمين.

ولا شك أن أسباب هذا الإخفاق تتجاوز المشاهد الفظيعة التي استقطبت الإعلام من قبيل انتهاكات سجون غوانتانامو وأبوغريب، وتتصل بجوهر الرؤية الاستراتيجية الأمريكية التي تعاني من خلل محوري هو الانزياح بين الرؤية الأيديولوجية للمشروع الأمريكي وأهدافه الاستراتيجية. فعلى الرغم من التوجه الجديد للربط بين نشر الحرية والمصالح القومية الأمريكية، إلا أن الحقيقة العينية هي أن المنطلقات الأيديولوجية للدبلوماسية الأمريكية لا تعني ـ عكس ما يكتب حاليا في الصحافة العربية ـ ان الإدارة الأمريكية تحركها محض النوازع العقدية (سواء كانت دينية أصولية أو محافظة جديدة)، بل تعتبر ـ كما بينت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في محاضرتها الأخيرة بالجامعة الأمريكية في القاهرة ـ ان الضغوط الإصلاحية الجديدة في المنطقة تخدم المصالح الحيوية الأمريكية، بما تفضي إليه من استبدال الأنظمة الضعيفة الهشة والمنبوذة بحكومات مستقرة قادرة على ضبط الأمن واحتواء الإرهاب. وحسب عبارة رايس، لقد دأبت الولايات المتحدة على اختيار معادلة الاستقرار على معادلة الحرية، فلم يتحقق الاستقرار بثمن ضياع الحرية، ولذا غدت تراهن على إمكانية تحقيق الاستقرار بضمان الحريات وإنهاء الاستبداد الذي هو البيئة الملائمة لتفريخ الإرهاب والتطرف. ولئن كانت هذه الأطروحة صائبة نظريا ولا غبار عليها، إلا أن الخشية قائمة من أن يفضي مسار التحول إلى تهديد ما تعتبره الولايات المتحدة مصالح قومية لها، بوصول تيارات تصنف معادية لها أو مناوئة لنموذجها الحضاري والمجتمعي.

وغني عن البيان أن مؤشرات هذا المسار عديدة جلية، حتى في العراق حيث جرت الانتخابات تحت رعاية سلطات الاحتلال، فأدت إلى تحكم المؤسسة الدينية المحافظة والقوى الأصولية الموالية لها في رهان الحكم.

ومع أن رايس أكدت أن الإدارة الأمريكية مستعدة لأداء الثمن المناسب الذي يقتضيه التحول الديمقراطي في العالم العربي ـ الإسلامي، منوّهة بالفوضى الخلاقة بديلا من الاحتقان الحالي، إلا أن طبيعة الأوضاع في المنطقة، خصوصا ما يتصل منها بالموضوع الإسرائيلي ترجح فعليا نكوص الولايات المتحدة إلى أسلوبها الواقعي الانتقائي في التعامل مع الاستحقاقات السياسية الداخلية في الدول الحليفة، بدل الرهان على ديناميكية التغيير الذاتي المحفوفة بمخاطر عديدة غير محسوبة.

ومن هنا يمكن القول ان الضغوط الأمريكية في سماتها غير المنسجمة والانتقائية تتحول إلى كارثة تعوق مسار التحول الديمقراطي الداخلي، في عدة مناح لعل أخطرها تشويه منظومة التحديث الليبيرالي بربطها بالتدخل الخارجي والاحتلال القسري، ومن ثم عزل وإقصاء التيار التحديثي الإصلاحي وتهيئة الأرضية الملائمة للتعصب والتطرف.