..لا الدم الفلسطيني خطٌ أحمر.. ولا الحرب الأهلية محرمة..!

TT

ليس غريباً، ويجب ان لا يكون مستغرباً، ان يحصل في «الداخل» الفلسطيني ما حصل فيه وما قد يحصل إن بعد حين وإن في المدى الأبعد، فعندما ترتبط العربة الفلسطينية بحصانين كل واحد منهما يشد في الاتجاه المضاد للاتجاه الذي يشد في اتجاهه الحصان الآخر فإن النتيجة ستكون حتماً هي هذا الصدام الذي وقع في قطاع غزة والذي من المتوقع ان يتجدد في أية لحظة.

إن المسألة ليست مسألة أدعية وتضرعٍ وامانٍ فحركة المقاومة الإسلامية «حماس» اتبعت نهجاً واضحاً، منذ ان انطلقت في نهايات عام 1987، هدفه الحلول محل حركة «فتح»، التي كانت قد خرجت تواً من حرب بيروت الدامية، وأيضاً محل منظمة التحرير الفلسطينية التي بمجرد إخراجها من العاصمة اللبنانية تعرضت لإنقسام قاتل وقفت وراءه وأججت نيرانه بعض القوى الإقليمية.

ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة ان حركة «حماس» لم تستجب لرغبة القيادة الفلسطينية، قيادة «فتح» وقيادة منظمة التحرير ورفضت رفضاً قاطعاً ومانعاً الالتحاق بهذه المنظمـة والمشاركة في المجلس الوطني الفلسطيني الذي كان يعتبر «برلمان» الفلسطينيين في المنفى والذي لم تقاطعه حتى الفصائل التي تعارضت وتناقضت مواقفها وسياساتها في وقت من الأوقات مع توجهات الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات رحمه الله.

لقد بذلت حركة «فتح» في مرحلة قيادة الثلاثي التاريخي من «الآباء المؤسسين»، ياسر عرفات (ابو عمار) وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو اياد) جهوداً مضنية عشية وبعد اندلاع الانتفاضة الأولى لضم حركة «حماس» الى الإطار الفلسطيني العام وعقدت اجتماعات متلاحقة من أجل ذلك في الكويت وفي تونس ولكن هذه الحركة التي كانت في بداية انطلاقتها بقيت تناور وتطرح شروطاً تعجيزية وبالنتيجة بقيت رافضة للانضمام الى منظمة التحرير ولحضور اجتماعات المجلس الوطني.

ثم ومع أنها كانت لا تزال ضعيفة، مقارنة بقوة حركة «فتح» وشعبيتها الكاسحة في أوساط الشعب الفلسطيني، فإن حركة «حماس» بادرت الى اتخاذ مـوقف رافض لقيام السلطة الوطنية الفلسطينية بعد عودة «ثورة الخارج» الى الداخل، على أساس اتفاقيات أوسلو الشهيرة، ولقد بدأ هذا الرفض باللجوء الى السلاح ووقوع مصادمات دامية كان من الممكن ان تؤدي الى حرب أهلية لولا ان السلطة التي كانت في بداية اندفاعها وفي ذروة لياقتها الأمنية تمكنت من حسم الأمور بسرعة والسيطرة على الموقف ومواصلة استخدام القبضة الحديدية ضد كل المحاولات التي جرت للمس بهيبتها وبمكانتها السياسية. .. وهكذا فإن سيطرة السلطة الوطنية بقيت مطلقة وبقي حضورها في الساحة الفلسطينية، في غزة والضفة الغربية، مفروضاً بالسلاح وبقوة الأجهزة الامنية وتماسكها الى ان اندلعت الانتفاضة الثانية «انتفاضة الأقصى» ثم جاء أرييل شارون الى قمة الحكم في إسرائيل وبدأ الأميركيون والإسرائيليون عملية التخلص من ياسر عرفات وتدمير مؤسساته وأجهزته الأمنية وحشره وحشر هذه الأجهزة في مبنى المقاطعة في رام الله بالصورة المعروفة.

... بعد ذلك وبعد ان تلاحقت حلقات مخطط التخلص من عرفات وسلطته بحجة عدم القدرة على ضبط الساحة الفلسطينية وعدم صلاحية الرئيس الفلسطيني السابق لان يكون طرفاً في العملية السلمية انفتحت كل الأبواب أمام حركة «حماس» لتكون البديل والمؤهل للحلول محل حركة «فتح» والسلطة الوطنية.

لقد رفعت الولايات المتحدة ومعها إسرائيل شعار: «ان عرفات غير ذي صلة» وانه لا يصلح لأن يكون طرفاً في عملية السلام، لأنه غير قادر على تحمل تبعات العملية السلمية، وغير قادر على ضبط الساحة الفلسطينية..! فبادرت حركة «حماس» الى التصعيد وتحويل الانتفاضة من انتفاضة شعبية «سلمية» الى انتفاضة مسلحة عنوانها العمليات الانتحارية بهدف إجبار الأميركيين والإسرائيليين على التحـاور معها واعتبارها الطرف القادر على الالتزام بأية حلول يتم التوصل إليها. والآن وبعد أن أظهرت الولايات المتحدة مرونة واضحة ومدَّت خيوط اتصالات معلنة مع «الإخوان المسلمين» فإن حركة «حماس»، التي هي فرع الإخوان المسلمين في فلسطين، وجدت ان الفرصة غدت ملائمة لفرض نفسها كبديل للسلطة الوطنية ولحركة «فتح» ولذلك فإنها سارعت الى السعي للإمساك بزمام الأمور عشية الانسحاب المفترض والهدف هو تحويل قطاع غزة الى منصة للقفز في فترة لاحقة الى الضفة الغربية.

إن التصعيد الذي لجأت إليه حركة «حماس» عشية الانسحاب الاسرائيلي المفترض من قطاع غزة هدفه إظهار انها هي التي أجبرت الإسرائيليين على الرحيل عن هذا القطاع، كما أجبرهم حزب الله على الرحيل عن الجنوب اللبناني، وانه من حقها ان تملأ الفـراغ الذي سيحصل بعد انسحاب الجيـوش الاسرائيلية وان تلغي دور حركة «فتح» ودور السلطة الوطنية كدور قيادي ورئيسي.

ولذلك فإنه لا يمكن تصديق كل هذه الشعارات التي تتغنى بـ «الوحدة الفلسطينية المقدسة» واعتبار الحرب الأهلية محرَّمة ولا يجوز الاقتراب منها، فالمعادلة واضحة وضوح الشمس، فإما ان تنسحب السلطة الوطنية ومعها حركة «فتح» من الميدان بطيبة خاطر وتترك الامور بعد انسحاب الإسرائيليين من قطاع غزة لحركة «حماس» وإلا فإن الاحتكام الى السلاح والقوة سيكون تحصيل حاصل..!.

كيف يمكن تصديق ان الحرب الأهلية محرَّمة وان الدَّم الفلسطيني خطٌ أحمر وهناك قوتان مسلحتان تتمسك كل واحدة منهما بسلاحها وترفض التخلي عنه وكل واحدة منهما تصر على انها الأحق بمستقبل غزة والأحق بالقضية الفلسطينية.. المفاوضات وعملية السلام والدولة المستقبلية ؟!.

إذا لم ترضخ حركة «حماس» لإرادة السلطة الوطنية وإذا لم تتخل عن أسلحتها وصواريخها وإذا لم تصبح جزءاً من الإطار الفلسطيني العام.. فإن الحرب الأهلية ستندلع، وللأسف، لا محالة وان الدم الفلسطيني لن يكون خطاً أحمر.. وان المرحلة القادمة ستكون أصعب المراحل الفلسطينية على الإطلاق..!.

لا يوجد أي خيارٍ سوى هذا الخيار وحتى وان حدثت المعجزة وقبلت حركة «حماس» بالمشاركة في حكومة وحدة وطنية فإن خطر الحرب الأهلية لن يتبدد ما دام ان هناك سلاحاً في الساحة الفلسطينية غير سلاح السلطة الوطنية.