«البيت الفلسطيني»: محاسن الصدف .. وجدلية إنقاذ ما يمكن!

TT

ما يعصف بالبيت الفلسطيني هذه الأيام، لا ينتمي بالتأكيد إلى «حال من الفوضى» أو «الفلتان الأمني»، كما أن البيت الذي يجري الحديث عن ترتيبه، هو في الحقيقة يعاني من التصدع والتداعي، ويحتاج إلى إعادة بناء في أكثر من موضع ومكان.

الأسباب التي أدت إلى تصدع جدران البيت، ليست غائبة بالتأكيد عن ذوي الشأن. كما أن عدم التقدم لنقد مرحلة كاملة، أدت إلى إشاعة كل هذا الخراب، لا يعني أن القوى السياسية الفلسطينية قد استوعبت الدرس، أو أنها تمضي قدما بهذا المجتمع في اتجاه التحسن والتعافي.

ولعل إلقاء المسؤولية في ذلك، لا يستقيم بتعليقه كله، أو حتى جله، على العدو الصهيوني، إلا إذا صح الافتراض أن مهمة بناء مجتمع فلسطيني مدني ومتحضر، هي مهمة منوطة بقوات الاحتلال. كما أن محاولات إلقاء اللوم على إجراءات سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أو على مساره السلمي، في ما آلت إليه الأحوال، ما هي إلا محاولة للخلط بين الضوء الكاشف لمستوى ذلك التردي المريع والخطير، الذي شكلته تلك الإجراءات، وبين السبب الحقيقي الذي يتعداها بالضرورة.

وما يجدر التأكيد عليه بداية، هو أن ما يجري الآن على الأرض الفلسطينية، ليس وليد اللحظة السياسية الآنية، بل انه يعود إلى أكثر من عقد من الزمان، أي عندما انغمست القوى السياسية الفلسطينية في لعبة اقتسام كعكة السلطة بعد العودة إلى الوطن، إلى الحد الذي جعلها تهمل القاعدة الأساسية التي تبنى عليها كل البرامج السياسية للقوى والأحزاب: المجتمع الفلسطيني نفسه.

هذا المجتمع عانى، ولا يزال، من التهميش جراء لعبة المنافسة تلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد شهدنا تراجعا لافتاً لقوى سياسية كانت وهي في بلدان الشتات، تولي عناية خاصة بقضايا التحرر الاجتماعي، كقضية تحرر المرأة والتعليم والعمل والعدالة الاجتماعية وغيرها. لقد بدا أن هذه القوى قد أصابها الفتور واستأنست إلى حالة من الاسترخاء، وهي تقفز، على ما تعتبره الأهم في سلم أولوياتها، ورأت أن تضحي بالمجتمع كله للحصول على نصيبها من مائدة السلطة.

أما الثقافة الفلسطنيية، التي كان من المفترض أن تكون أحد أهم الحصون المنيعة في ذلك البنيان، لم تنج بدورها من اعتداءات لا تقل خطورة، فتراجع دورها تراجعا ملحوظا، كما تضاءل الإبداع الفلسطيني على كافة المستويات، لا بل ان هذه الثقافة تحولت لتكون ملحقا وبوقا ناعقا بشعارات السياسيين، لتطبل وتزمر للبرامج الأصولية وللعمليات الانتحارية التي لم تجر على الشعب الفلسطيني سوى الويلات والهزائم. كما أن «الوحدة الوطنية»، التي كان يرجوها هؤلاء من تحالفهم مع تلك القوى، أخذت هي الأخرى بالتداعي. وشهد المجتمع نموا متعاظما للعصبيات العشائرية والجهوية والعائلية، وصارت مشاهد الثأر العائلية والفردية مشاهد يومية. أما نسيج التآخي والتعايش الذي ميّز فلسطين عبر تاريخها، والذي لم يستطع أي احتلال النيل منه، تحول بدوره إلى خرق ممزقة.

لقد كان من شأن صرخة رئيس بلدية بيت لحم، قبل شهور قليلة، أن تشكل ناقوس خطر إضافي لكل مظاهر الخطر الأخرى، إلا أن هذا لم يحدث. حنا ناصر، الذي أعلن صراحة عن قلقه من تناقص عدد المسيحيين إلى الحد الذي يؤدي إلى إفراغ فلسطين من أحد مكوناتها الديمغرافية، كان قد جاء على نصف الحقيقة. أما نصفها الآخر، الذي لم يقله، فهو ذاك المتعلق بقيم التطرف وممارسات أصحابها القائمة على تكفير الآخر المختلف واضطهاده ومحاولات إذلاله والاعتداء على حقوقه. وباختصار، فقد استكملت كل هذه القوى، بقصد أو بدون قصد، مهمة إسرائيل الدؤوبة لإحكام طوق عزلة حول رقاب الفلسطينيين.

ليس هذا وحسب، بل لعل الأخطر أن تلك القوى جميعا ساهمت بصورة مباشرة في جر المجتمع، الذي كان لا يزال يبني لبناته الأولى باتجاه الدولة ومؤسساتها، إلى حرب غير متكافئة أتت على الأخضر واليابس. حرب أدت إلى تدمير كل ما بناه الفلسطينيون طيلة عقود طويلة. ليس من داع للتذكير بأن ثقافة تقديس العنف التي أشاعتها تلك القوى في المجتمع، لم تحقق أي من الأهداف الفلسطينية، لكن ما يجب التأكيد عليه، أن تلك الثقافة هي التي أدت إلى تدمير الكثير من القيم الاجتماعية والأخلاقية، التي كانت تحمي المجتمع من داخله كقيم البناء والتسامح والحريات، لتحل معها القيم الكفيلة بتهديم أي مجتمع مثل قيم التعصب الديني والجهوي والعائلي والثأر وغسل العار.. إلخ، ما كان أحد في تلك الأثناء لينتبه أن ذلك العنف بات يرتد إلى صدر ذلك المجتمع بعد أن صارت مشاهد الدم حدثا اعتاد عليه الفلسطينيون مع الوقت، لكن: هل كان أحد في تلك الأثناء مستعداً لسماع النداءات المطالبة بوقف نزيف الدم لا رأفة بالإسرائيليين، بل رأفة بذلك الجسد الفلسطيني الغض والضعيف الذي لا يحتمل؟، ما كان أحد مستعد للسماع أو الاستجابة. هؤلاء ربما لم يفهموا بعد أن محاسن الصدف الدولية وحدها هي التي أوقفت ذلك المجتمع عند شفير الهاوية، لتمنعه من القفز إلى أعماقها. فاهتمام الولايات المتحدة الأمريكية مجددا بالمنطقة والعمل على ضرورة إصلاحها، هي التي أنقذت الفلسطينيين من أنفسهم، لكن السؤال الذي يبقى معلقا أمام صورة الواقع القاتمة هو: إذا ما كان هؤلاء الذين يهددون بخرق الهدنة، لا زالوا يعتقدون أن هناك مكانا سالما في الجسد الفلسطيني لم تنل منه سهام الخراب، أو أنه لا يزال يحتمل المزيد؟، والسؤال الآخر الذي يؤرق الحاضر الفلسطيني، هو: هل كانت الصدف الدولية السانحة وحدها تكفي لكي يتعلم كيف يبني الفلسطينيون مجتمعهم ودولتهم؟.

* كاتبة فلسطينية

مقيمة بفيينا