العلاقة المميزة

TT

صيادو الاسماك في عاصمة الشمال اللبناني، طرابلس، يضربون استنكارا لمعاملة سورية لهم بداعي «تجاوزهم المياه الاقليمية اللبنانية» ابان ممارسة عملهم. (والعديد من ابناء طرابلس رفضوا «قبول» الجنسية اللبنانية يوم اعلان «لبنان الكبير» عام 1920، لانهم كانوا يشعرون بأنهم سوريون قلبا وقالبا).

اصحاب وسائقو سيارات الشحن ينفذون اعتصاما رمزيا عند نقاط العبور في منطقتي البقاع والشمال اللبنانيتين، احتجاجا على الاجراءات «الامنية» التي تتخذها الجمارك السورية حيالهم، رافعين شعارات قد يكون أبلغها شعار: «نحن لسنا رجال سياسة. عندنا عيال».

شبان في منطقة المنية (شمال لبنان ايضا) يرشقون حافلتين سياحيتين سوريتين بالحجارة ويكسرون نوافذهما... وكل ذلك يجري من قبل ابناء «الاقضية الاربعة»، التي تعتبرها دمشق مناطق سورية ضمها الفرنسيون الى «لبنان الكبير».

حتى الامس القريب كانت حالة «النفور» ـ ولا نقول العداء ـ لسورية حالة طائفية فئوية في لبنان... إلى أن حولها اليوم التصرف السوري المتسرع الى حالة لبنانية عامة وشاملة.

باختصار، ما عجزت الاحزاب الموصوفة بـ« الانعزالية» و«الطائفية» عن تحقيقه على مدى نصف قرن واكثر من العمل «العقائدي»، انجزه حزب الوحدة العربية الحاكم في دمشق بشهر واحد، وبنجاح منقطع النظير.

من يراقب التصرف السوري الرسمي حيال لبنان، منذ خروج القوات السورية العسكرية من الاراضي اللبنانية، يصعب عليه ألا يستنتج ان الرافض الاول والاخير لمبدأ «العلاقة المميزة» بين البلدين ليس الشقيق الاصغر، لبنان، بل الاكبر، سورية.

ربما كانت تجربة العقود الثلاثة الماضية اقنعت «وحدويي» البعث بان العلاقة المميزة الوحيدة المقبولة مع لبنان هي علاقة الوصاية المباشرة، بما تستتبعه من مكاسب، وربما اعتبروا أن التعويض «المعنوي» لخروجهم العسكري من لبنان يستوجب اعادة التذكير بقدرتهم على التحكم بالحدود البرية الوحيدة للبنان. ولكن اذا كان العنوان الكبير لعرقلة الصادرات اللبنانية عبر الحدود السورية ومضايقة صيادي الاسماك، تقويض اقتصاد لبنان (وخسائره تقدر بـ60 مليون دولار شهريا)، وتنغيص عيش كل من طالب باستعادة سيادته، فان باستطاعة اللبنانيين، إن احسنوا مواجهة الازمة ببعض الاجراءات العملية، تعزيز التصدير بحرا وجوا وتجاوز الحصار ببعض التضحيات الاقتصادية. ولكن البعد الاخطر لهذا التصرف، وعلى البلدين معا، يكمن في تجاهل تبعاته القومية، على المدى الطويل، والدولية على المدى المنظور. على الصعيد الدولي، يغامر بعثيو دمشق بدفع «القضية اللبنانية» نحو المزيد من التدويل، الامر الذي ظهرت بوادره في إدراج وزارة الخارجية الاميركية الحصار السوري في خانة «انتهاك» القرار 1559، وفي عودة وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي (في مؤتمر بروكسل) الى ربط استعدادهم لاقامة «علاقات كاملة ومثمرة» مع دمشق بمساهمة سورية «الايجابية في الاستقرار الاقليمي»، مطالبين سورية، في الوقت نفسه بدعم الحكومة الجديدة في بيروت.

ولأن التصرف السوري يمس مستوى معيشة كل الشرائح الاجتماعية في لبنان، تبقى تداعياته «القومية» الاخطر على «العلاقة المميزة» بين البلدين، في ظل تجاوز حالة «النفور» السياسي من سورية وقوقعتها الفئوية السابقة، لتتحول الى حالة لبنانية عامة تطيح بذريعة كل من كان يؤمن بهذه «العلاقة المميزة» وتعزز حجة الداعين الى إقامة علاقات دبلوماسية عادية بين بيروت ودمشق.