العروبة .. المخذولة!

TT

يسهل عليّ، أنا اللبناني الخمسيني الذي يزعم أنه عجم عود السياسة السورية واللبنانية على امتداد عقود ودرس بتعمّق تاريخ المنطقة ـ أكاديمياً ـ خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الإقرار بوجود مشاعر «انعزالية» لبنانية. ذلك أن وراء «الانعزال» اللبناني عن محيطه العربي وصلاته الجغرافية والإنسانية «ثقافة هجينة» تغربية، مريضة ومكابرة وعدائية، حظيت برعاية غربية منذ عهد طويل. وهذه الثقافة ترفض كل ما هو عربي بحجة أن كل عربي مسلم، وبالتالي فغير المسلم يكون حكماً غير عربي! ولقد «عشعشت» هذه الأكذوبة في أذهان كثيرين بمرور الزمن، وتمكنت مؤسسات محلية وأجنبية من ترويجها وتسويقها لعشرات الآلاف من اللبنانيين وغير اللبنانيين من العرب متجاهلةً عن عمد حقائق التاريخ. ولا شك أنه توجد ثمة جهات داخل لبنان ـ وأيضاً داخل سورية على ما يبدو ـ لا تؤمن بالهوية العربية. ولكن لئن كان مفهوماً أن يبذل «الانعزاليون» في لبنان الغالي والرخيص من أجل تدمير «وحدة المصير القومي»... فإنني أجد صعوبة في فهم كيف يقدم «وحدويّو» الجانب المقابل، في سورية، على تقوية حجج من يفترض أنهم خصومهم عقائدياً من دعاة الطلاق البائن.

أنا أفهم أن يتفنن من يريدون نسف آخر العلاقات الأخوية بابتكار الوسائل والذرائع لتحقيق مقاصدهم... أما أن تتولى دمشق «الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة» هذه المهمة عن طريق إغلاق الحدود والتأكيد على قدسية «المياه الاقليمية»، وهي التي لم تبلّغ الأمم المتحدة رسمياً «أن مزارع شبعا أرض لبنانية»... فأمر أكثر من غريب وأعجب من عجيب.

ما من شك أنه حصلت على امتداد 30 سنة أخطاء في التعامل السوري مع الملف اللبناني ـ باعتراف الرئيس بشار الأسد نفسه ـ ولكن بالرغم من هذه الأخطاء حرص معظم الساسة اللبنانيين الذين انتقدوا دمشق أخيراً على التمييز بين الممارسات السياسية من قبل الممسكين السوريين بالملفين السياسي والأمني اللبنانيين ...وبين علاقة لبنان بسورية كعمق قومي وجسر تلاق عربي هو حتماً أرسخ من السياسة وأسمى من مناوراتها ومصالحها الاستنسابية العابرة.

وما من شك أيضاً ان السلطات في دمشق ربما فوجئت ـ بل وصدمت أيضاً ـ ببعض الشعارات العدائية التي رافقت تطورات ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) الماضي. بيد أن الشعور بالمفاجأة والصدمة تتحمل مسؤوليته دمشق في المقام الأول لأنها في مراحل متمادية من تعاطيها في الشأن اللبناني أخفقت في التمييز بين الحلفاء الاستراتيجيين وانتهازيي المصالح المؤقتة. ومن ثم كان إفراطها في الثقة بانتهازيي المصالح ومشتري النفوذ كارثياً على أكثر من صعيد .... ليس أقلها تلقيها صوراً كاذبة عن حقيقة الوضع الداخلي اللبناني، وبالذات المزاج الشعبي فيه، إزاء سورية.

ولقد كان «قانون محاسبة سورية» ودور جهات لبنانية داخل الولايات المتحدة في تبنّيه وتوفير التغطية «اللبنانية» له كفيلاً بتنبيه دمشق إلى ما يطبخه «اللوبي الليكودي» في العاصمة الأميركية. إلا أنها مع الأسف لم تتعامل معه بالشكل المطلوب ...لا مع واشنطن، ولا مع حلفاء واشنطن الأوروبيين، ولا مع القيادات اللبنانية المفترض أنها تعرفها جيداً من خبرة ثلاثة عقود.

وأدى إصرار دمشق على تمديد رئاسة الرئيس إميل لحود ضد الرغبات الفرانكو ـ أميركية المعلنة إلى رد فعل سريع عبر إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1559 .

القرار الذي ادّعت أبوته أطراف لبنانية ـ مدعومة اميركياً ـ تحالف معها فجأة من كانوا «حلفاء» لدمشق داخل لبنان في الانتخابات الأخيرة، وهم الآن يحاولون توفير الغطاء الاسلامي لها.

خلاصة القول... إن العلاقات اللبنانية ـ السورية تعيش الآن حقبة في غاية الخطورة. وسيكون من قبيل المفارقات أن تُضرب العروبة من بيت أبيها، فيصدق فيها قول الشاعر المناصر للبيت العلوي الذي نكّل به العباسيون بعدما ادعوا حرصهم على إعادة الخلافة لآل البيت:

أرى أمية معذورين أن قتلوا ولا أرى لبني العباس من عذرَ