عمامة السودانيين

TT

مرة سمعت أن العمامة التي يلبسها الرجل على رأسه في السودان، جاءت من فكرة أن السوداني كان يلف أمتارا كافية من القطن على رأسه، ليؤمن لنفسه دائما كفنا، يحمله على رأسه أينما ذهب، حيث لا تدري نفس في أي بقعة تموت!

ولا أدري ما هي الظروف التي جعلت السودانيين يهجسون الموت إلى هذا الحد، فيحملون أكفانهم على رؤوسهم، لكن الإنسان لا يعرف أسرار الشعوب حتى يعايشها، على رأي شاعرنا العربي الذي قال لا يعرف الشوق إلا من يكابده.

وبين شوق الشاعر وخوف السوداني من أن لا يجد كفنا في البقعة التي يموت فيها فرق، لكن الشاعر الحكيم فسر لنا سر اختلافات الهواجس والطقوس بقول شاعر آخر قال «كل يغني على ليلاه». كما أننا، نحن العرب، صرنا اليوم نملك وقتا طويلا للتأمل، خاصة في إجازة الصيف. ومن يعايش أيامنا هذه، حتى إن كان بلا عقل ولا حكمة ولا شعر، سينبت له عقل، ويفهم الحكمة من وراء حمل السوداني الكفن على الرأس.

فالخائف من الموت اليوم لم يعد يجد محلا يرتاده بأمان، لا شاطئا، ولا حافلة، ولا شارعا، فيفضل السهر مقابل التلفزيون الذي ما عاد آمنا أيضا وكله أخبار موت.

صار لدينا وقت طويل للتأمل، مما يجعلنا نفهم أن حكمة السودانيين قد صارت قريبة من منطق اليوم، فالناس حاروا عندما بدأ الصيف، وأخذوا يشطبون أسماء مدن بدت لهم غير مناسبة للسفر، بسبب أخطار الإرهاب وتداعياته القانونية ومكائدها وشتائمها، فوضعت الولايات المتحدة في القائمة السوداء، أي قائمة المدن المشطوبة من السفر، تلتها إسبانيا ثم ألغيت بيروت، ومن بعدها ألغيت لندن منذ أيام، ثم أضيفت، على الأقل حتى كتابة هذه المقالة، مصر إلى القائمة السوداء.

سألوني عندما جئت لبيروت:

ـ لك قلب تيجي؟

ـ قلت: وهل هناك مكان آمن ليصبح أفضل؟ فالقنابل أينما توجهنا نجدها أمامنا!

بدلا من أن نفوت فرصة استثمار أوقاتنا التي تمر هدرا، بلا عمل وبلا سفر، فيما الشرق والغرب، يصدرون لنا ثيابنا، وشماغنا الوطني، وأفران مطبخنا وغسالة ثيابنا وسياراتنا وفناجين قهوتنا التي نشرب فيها القهوة البرازيلية، لنعدل مزاجنا ونقول الشعر، حتى نظاراتنا الطبية التي نقرأ بها، وأوراقنا التي نكتب عليها الشتائم لغيرنا والمدائح لنا، ونكتب أن لنا الصدر بين العالمين.

ونحن لا نصدر إلا أبناء مشلولي العقل، يفخخون ويقتلون ويشجعون، لماذا لا نخترع نحن ـ على الأقل ـ زيا نبعث فيه فكرة العمامة السودانية، أي حمل أكفاننا على رؤوسنا أو ظهورنا، ونسافر أو نمضي حيث نشاء فلا تدري نفس أي قنبلة أخ تقتلنا!

[email protected]