تفجيرات لندن: ما تلاها أشد خطرا منها

TT

شبح الإرهاب الإجرامي البغيض المتنقل من بلد إلى آخر يترك ضحاياه الأبرياء، وعواقب وخيمة ذات تأثيرات بعيدة وشروخاً عميقة على العلاقات بين الشعوب. ففي متابعة ما تلا تفجيرات لندن بوادر ظاهرة خطيرة قد تقود العالم إلى صراع مرير لا تحمد عقباه، إذا لم يتمّ تداركها بحكمة من قبل الجميع. وهذه الظاهرة لا تحتمل أنصاف الحلول ولا يمكن لطرف واحد من الشرق أو الغرب التكفلّ لوحده بالقضاء عليها، ألا وهي ظاهرة التشهير بالإسلام والمسلمين واعتبارهم، لا بل واعتبار تعاليم دينهم مسؤولة عن العنف والإرهاب. فهذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها عدد كبير من الكتاب في أمهات الصحف الغربية، إقناع الرأي العام العالمي بأن التعاليم الدينية التي يتعلمها المسلمون في مدارسهم تزرع الكراهية في نفوسهم! وأن هذه «الكراهية» لا علاقة لها بالسياسات الدولية ولا بنتائجها من المجازر اليومية والاحتلال والمعايير المزدوجة التي تنزل الإهانة والإذلال بمئات الملايين من المسلمين طوال أكثر من قرن على يد القوى الغربية في بلدان عديدة وبالأخص في فلسطين والعراق!! وأن «الإيمان بالإسلام» نفسه قد غرس في نفوس أبنائه الرغبة بأن يصبحوا انتحاريين !؟ وبدأت تسمية «مروّجي الكراهية» تنتشر لتصيب كل المسلمين وتنطلق الدعوات في الجامعات الغربية لمراقبة واقتفاء أثر كلّ الطلاب المسلمين، أو طرد كلّ «إسلامي» حتى وإن كان يحمل الجنسية الأوربية، مع الاختلاف الشديد طبعاً على من هو «إسلامي» أو «ليس إسلامياً». وبالمقابل يتمّ إهمال الإدانات الواسعة للمثقفين والمفكرين وأئمة المساجد في كل أرجاء العالم بما في ذلك الوطن العربي، وقادة المسلمين في بلدان مثل استراليا وكندا

وبريطانيا وأميركا ـ لتفجيرات لندن وغيرها من الأعمال الإرهابية المدانة، مهما كانت الأسباب، حيث اعتبرتها المنظمات الإسلامية جميعاً انتهاكاً لتعاليم الدين الحنيف وخرقاً فاضحاً لروحه وجوهره وأن من يرتكب مثل هذه الجرائم لا يمكن أن يكون مسلماً، بينما أخذ توم تانكريدو عضو الكونغرس الأمريكي عن ولاية كولورادو يهدّد بتدمير الكعبة إذا تعرضت أميركا لهجوم إرهابي في استمرار لاستفزاز مشاعر المسلمين بعد تدنيس قرآنهم وانتهاك مقدساتهم واحتلال قدسهم الشريف واستقدام المستوطنين إليها أسبوعيا بعد طرد المسلمين والمسيحيين من القدس الشرقية ومحاولة إخماد أي صوت متوازن ومعتدل يحاول أن يشير إلى الحقائق كما هي، في محاولة لتطويق أزمة دولية، كصوت كين ليفنغستون محافظ لندن والذي يقارب الموضوع بمنتهى الحكمة والتوازن في محاولة جادة لاستبدال مشاعر الحقد بمشاعر البحث الفعّال عن أسباب الأزمة ومن ثمّ تطويقها ومكافحة الإرهاب من جذوره الحقيقية.

ووصف الحالة على الساحة الدولية بأنها في أزمة ليس وصفاً مبالغاً فيه على الإطلاق إذ أنّ الشباب المسلم في كلّ مكان يراقب ما يجري في فلسطين والعراق وغيرها، ويقرأ المقالات والكتب الغربية، ويشاهد الأفلام التي تستفزه دون مبرر حين تهين تاريخه ومقدساته ونبيّه، ويشعر بالغضب نتيجة هذا الإذلال اليومي والقتل المتعمد لأبنائه وانتهاك حرماتهم ومقدساتهم وعصب أعينهم وإخراجهم إلى الإعلام معتقلين بمناظر مذلةّ بحيث يشعر من يشاهدهم من أبناء دينهم أنه يتمنى الموت قبل رؤية هذه المناظر. هذه الأفعال المذلة للملايين هي التي تخلق الأرضية الخصبة لانتشار فكر الإحباط الانتحاري ومفرزاته الإرهابية التي تصيب قلة مصابة بالتطرف وبالانفصام عن روح الإسلام والمسلمين. والمشكلة هي أنّ الرأي العام الغربي في الغالب، حتى قادته والمشرعين، لا يرى على شاشاته أو في إعلامه هذه المناظر المهينة، فلأن الإعلام الغربي «حر» فهو يركز فقط على ردود أفعال المسلمين دون أن يعطي مساحة مماثلة للأفعال التي سببت ردود الأفعال هذه. فقد أوردت كل وكالات الأنباء مثلاً ما قاله المغربي الذي قتل المخرج الهولندي فان فوغ، ومع كل الإدانة الشديدة لمبدأ القتل والعنف والإرهاب مهما كانت الأسباب، إلا أنّ أحداً لم يذكر الإهانة الشديدة التي وجهها المخرج للإسلام والتي تسببت في موجة غضب عمت كل من شاهد أو سمع عن هذا الفيلم في العالم الإسلامي. أما أن يقال أن من يتفهم أسباب الغضب أو يحاول تشخيصها من أجل معالجتها وسدّ منابع الإرهاب، أنه يؤيّد قتل الإسرائيليين في عمليات انتحارية كما تمّ اتهام عمدة لندن فهذا ابتزاز مرفوض وتسويف لما قيل،

وذرّ الرماد في العيون، وأما أن يحاول البعض تعتيم صورة المسلمين واستصدار القوانين العنصرية بحقهم في محاولة للتغطية على الجرائم التي ترتكبها ضدهم يومياً في عدد متزايد من البلدان، وخاصة فلسطين والعراق

وغيرهما فهذا استغلال بشع لأزمة عالمية قد توصل العلاقات بين الأديان والشعوب إلى مرحلة لا تحمد عقباها وتصبح نتائجها كارثية على العالم أجمع.

لا يزال العالم يرى في نيلسون مانديلا، وفي سجنه الطويل بتهمة مقاومة الأبارثيد، تجسيداً لما عانته الملايين من البشر من ممارسات التمييز العنصري وكان التمييز بالأمس بسبب السحنة السمراء فهل ينتكس العالم اليوم أيضاً ليقبل بعذابات العرب والمسلمين مهما اشتدت في بلدانهم المحتلة وفي السجون الإسرائيلية والأمريكية وفي المطارات والجامعات والعواصم الأوربية، بحجة محاربة الإرهاب؟ إن تعاليم الإسلام كدين سماوي والمسلمين في كل بلدانهم يدينون تفجيرات لندن وشرم الشيخ وغيرها من الأعمال الإرهابية الشنيعة، التي عانى المسلمون منها قبل الغرب منذ بداية القرن الماضي، وهذه الإدانة الشعبية الواسعة تشكل حجر أساس يجب البناء عليها بخلق تحالف إسلامي غربي ضد الإرهاب والعنف والظلم. والخطوة التالية الضرورية هي معالجة وقائع الظلم والاهانة والإذلال والإرهاب التي يعاني منها المسلمون في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي كل مكان، وإيقاف هذه الموجة العنصرية المغرضة ضدّهم بحيث أصبح كل ذي سحنة سمراء وشاربين ولحية متهماً ويصبح قتل المتهم مبرراً، حتى قبل أن يوجّه إليه سؤال، أو أن يتمّ استنطاقه وعلى العالم أن يتذكر أنه حتى وقت ليس ببعيد كان أصحاب السحنة البيضاء يعتقدون في أميركا أو في جنوب أفريقيا أنّ صاحب الجلد الأسمر لا يتمتع بالمشاعر ذاتها التي يتمتع بها صاحب الجلد الأبيض، فهل نعود إلى معادلة مشابهة بأن المسلم ينشأ على الكراهية بسبب دينه، وأنه من المباح قتله وإذلاله واحتلال أرضه وتهجير شعبه واستقدام المستوطنين وبناء جدران الفصل العنصري على ترابه الوطني والتمييز ضده حيثما وجد وفي أي بلد كان ومن ثمّ إطلاق صرخات التعجب على حجم الغضب والنقمة؟!! إذا سألت أي إنسان في العالم ما هو الشيء الذي يصبح الموت معه بالنسبة لك سهلاً؟ يقول: «الذل». الذلّ أصعب من الموت ولا يمكن لبشر طبيعيين أن يختاروا الموت لأنفسهم وللآخرين لو لم يطفح كيل الشعور بالذل لديهم فهل نعالج الأمر بفرض إذلال وعقوبات أشدّ على الملايين وبمهاجمة مقدساتهم بسبب أعمال مدانة تقوم بها فئة متطرفة منبوذة في مجتمعاتها أساساً، أم بالعمل يداً بيد ضدّ كلّ من وما يؤجج مشاعر الغضب والنقمة. هناك متطرفون على الجانبين يحاولون إذكاء نار الحقد والكراهية وتصوير الآخر على انه تجسيد للخطر، ولا بدّ من القضاء عليه لإزالة الخطر ولكن الشيء الوحيد الذي يجب القضاء عليه لإنقاذ العالم هو التطرّف وانعدام العدالة وامتهان الكرامة الإنسانية ويكون ذلك بأن نعود إلى دروس التاريخ لنلحظ كم من العنصرية بدأت تظهر في التصريحات حتى من قبل أناس في مواقع عليا من المسؤولين بل أصبحت هذه التصريحات سبيلاً لإعلان ترشيح مطلقيها لمواقع أعلى في المستقبل.

لا بدّ من تطويق هذه الموجة بمعادلة واحدة لا بديل عنها وهي المساواة في الكرامة الإنسانية والإيمان بأن الأديان جميعاً تعلّم المحبة والأخوة والتفاني، وأن ممارسات البعض في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً هي التي تولدّ الشعور بالغضب والحقد والنقمة وبالتالي البيئة المناسبة لانتشار التطرف والإرهاب. وأنّ الحديث ضدّ ممارسات إسرائيل الإجرامية ليس معاداة للسامية بل ضرورة لإنهاء الاحتلال والاستيطان والظلم الذي يشكل البذرة الأساسية للعنف المتبادل. فليبدأ الغرب بالاستماع لأخبار المسلمين في ديارهم ودياره ولنعمل جميعاً لإرساء أسس العدالة والكرامة بعد إنهاء الاحتلال والاستيطان ولنعمل جميعاً كبشر متساوين في الكرامة الإنسانية كي لا تتم إعادة إنتاج فكر وممارسات الأبارثيد العنصرية ولا يتم إعادة إنتاج عصر العبودية بذريعة أن من يختلفون في الشكل أو المعتقد يختلفون في المشاعر والروح والقلب. حينذاك فقط، حين نوجّه التحية إلى عمدة مدينة لندن وأمثاله لمنطقهم السليم والصائب نكون قد وضعنا قدمنا على الطريق الصحيح لتطويق أزمة قد تكلف العالم مستقبله الهانئ المزدهر الذي تحلم به الأجيال الشابة في كل مكان.