صدام: هل يُعقل الاختلاف عليه..؟!

TT

بثت قناة «العربية» الفضائية يوم الخميس الفائت لقطات جلسة استجواب الرئيس العراقي السابق صدام حسين حول القضايا التي تواجهه، موضوع المقال لا يناقش المحاكمة أو ملابساتها، وإنما يجتهد في تعيين اختلاف الناس حول ماهية الرجل، فلا نظن أن كل من شاهد صدام تنازعته مشاعر السخط والاستياء لتاريخه البائس، فقراءة صدام بالذات يتفاوت مؤشرها من العمق إلى الضحالة بين الكثيرين، وللأمانة لم أكن أعتقد بمدى غبش الصورة من قبل، كما تيقنت من اختلاطها فيما بعد.

أذكر أثناء متابعتي للدراسة حدث في محاضرة وموضوعها يدور حول سياسة الوطن العربي أن عبرّت إحدى الزميلات (للتأكيد لست أنا) وبحماس عن رأيها في صدام، ووبال حكمه على الجميع، فما كان من أحد الحاضرين (بقطع النظر عن جنسيته نأياً عن الحساسيات) إلاّ أن همّ بالهجوم على الفتاة لتلقينها درساً لتهجمها على محبوبه ومثَلِه، طبعاً لم يسفر المشهد الكئيب عن شيء، فهناك من أمسك بتلابيب الطالب الجاهل بأبسط قواعد الأدب، ولكن المستغرب أن الدكتور المحاضر قد أثنى في وقت لاحق على التصرف نفسه من زاوية الالتزام بالمبدأ، زاعماً بشجاعة الموقف. وعلى العموم، لو تحركنا من موقع الأستاذ وطالب الدراسات العليا إلى الشارع العربي لاختلط سمعنا بأصوات المديح وصب اللعنات وكل لديه دوافعه، والذي «قد» نجد له بعض من عذر لتفاوت مستويات الثقافة عامة، أي ما يدعونا إلى أن نفهم أكثر منطق الإنسان البسيط الذي لا يزال يمجد صدام حسين، وهو أيضاً ما يحملنا على الدهشة إن صدر ذات الحكم عن ذاك المتعلم والمطّلع.

خلال ما يقرب الربع قرن على رئاسة صدام، وما يزيد عن ثلث قرن من حكم البعث، تغيّر العراق من حال إلى حال، فالبلد الذي يتمتع بالنفط والماء والبشر والأرض الزراعية، أعيد تفكيكه وتركيبة ثانية، ولكن بأسلوب صدام الملتوي، بحيث تم فيه إنتاج التفسخ الطائفي والإثني باحتدام غير مسبوق، دمرت من خلاله حياة المجتمع الداخلية كما مع أحزابه ونقاباته ومؤسساته التي ألحقت بالحزب وجواسيسه، إلى أن شهدت بلاد الرافدين هجرة أربعة ملايين إنسان ما بين منفي ومهاجر، بخسائر اقتصادية بلغت 830 بليون دولار، تكبدها العراق طوال فترة الحكم الصّدامي، منها 150 بليون دولار كنتيجة للعقوبات التي فتكت بالعراقيين وعزّزت من سلطة الرئيس، وهو الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة، ويذّكرنا بسياسات القرون الوسطى، حيث تسوّر المدن ويترك للطاعون أن يفتك بها، وبدلاً أن يفكر المنتصرون بعد تحرير الكويت في التوظيف السياسي لانتصارهم العسكري، فيلزموا نظام بغداد باستقبال المنفيين وتأمينهم، وتشكيل الأحزاب وتأسيس الصحف والمكتبات وتطوير دور العلم، على اعتبار أن الديمقراطية لا تطرح من فوق، وهم من كان بإمكانهم فرض الشروط بعد أن أمروا بمنطقتي الحظر الجوي في الشمال والجنوب (تآكل السيادة العراقية)، أقول عوضاً عن العبء بإنماء الأسباب التي تقوّض النظام من داخله، أي طلب الديمقراطية من تحت، يضرب ذلك الحصار الجماعي المجحف بحق العراقيين جميعهم، حتى بلغت نسبة الذين هبط منهم إلى ما دون خط الفقر أكثر من %75، غير المياه النقية التي لم يكن يحصل عليها أزيد من %41 من مجموع السكان، لتسجل التقارير الدولية في عام 1997 أعلى معدل وفيات للأطفال في العالم.

وبعد أن كانت حصة الإنفاق السنوي على التعليم في عام 1988 قد جاوزت الـ320 مليون دولار، يأتي عام 1998 فيغدو نصف تلاميذ المدارس بلا مقاعد، بنسبة رسوب شارفت الـ%71، وبعد أن كان الدولار الأمريكي يساوي الدينارين يتحول سعر صرفه إلى ألفي دينار. ومرة أخرى يستثمر صدام المشاعر، وعقب تعاظم بناء نصبه وقصوره ومحاكاتها لعوالم ألف ليلة وليلة ومرابع لاس فيغاس، فيستخدم ورقة الأطفال لاستدرار التعاطف الدولي، ثم ولمزيد من الدعم ينشأ «جيش القدس» ويرسل ما يفوق الـ35 مليون دولار للفلسطينيين منذ انتفاضتهم الثانية،

مقدماً عوائد كميات من نفطه شبه المجاني للسلطة الوطنية الفلسطينية وسوريا والأردن، في حلقة أخرى من سلسلة استهتاره بموارد الوطن، حيث ينتهز النفط المهدور ويستغل حاجة الغير له لكسب التأييد والحلفاء، تحت مظلة البرنامج الاستعراضي «النفط مقابل الغذاء» الأممي الذي صدر في 1995 وسمح ببيع بعض النفط العراقي في مقابل الأكل والدواء، والذي ساهم بقدر لا بأس به في استمرار الأزمة. ليس فيما قيل من سر يذاع، ولكن يجوز أن بعضنا لم يكن على دراية بحقائق الأرقام، وإن كان ما ذكر لا يقارن بما حُجب، مما لا مجال لسرده بالطبع، فالرسالة المعنية بالغباء السياسي الذي اتسمت به أيام صدام هي المقصودة، ولم يبق غير السؤال: من أين يأتي الإلحاح على الإعجاب بشخصية صعدت بنفسها وبغيرها إلى الهاوية!

لا أزعم استقرار الأوضاع في عراق اليوم ولا أجرؤ، فيكفي ما تطالعنا به وسائل الإعلام، إنما من حوّل نفسه إلى «المهيب الركن» واحتل المشهد بأكثر مما فعل ستالين (قدوة صدام وصاحب مقولة: قتل شخص قضية، قتل مليون عملية إحصاء)، فرسم الخطط وحاكها فجاء ختامها بلا مسك على العرب كافة. ومن أضعف العراق وأحاله قاعاً صفصفاً، حتى بات أهله مثل المساجين الذين ألفوا سجنهم واحتاروا في حريتهم، هذا إن جاءت. ومن أدخل أمريكا وغير أمريكا إلى المنطقة محققاً لهم حلمهم القديم. هذا الـ «صدام» لا ينبغي لنا أن لا نختلف حول شره الذي طال الكل، ويكفي تخبطنا في كل شيء، حتى في أمر هكذا رجل، اختار تفجير الحياة..!