. حتى لا نسقط في فخّ الإرهاب

TT

يذهب الباحث الفرنسي في الحركات الإسلامية «جيل كيبل» في مقاله الأخير بصحيفة لفيغارو (26 يوليو) إلى أن التفجيرات الرهيبة التي عرفتها لندن وشرم الشيخ في الآونة الأخيرة، يجب أن لا تقرأ بصفتها دليل تنامي نزعات الإرهاب الأصولي في العالم الإسلامي، كما هو النهج السائد في الإعلام الغربي، بل ينبغي النظر إليها من حيث هي مؤشر بارز على عزلة هذه التيارات، التي عوضت قاعدتها الشعبية المفقودة، بأدوات الفضاء الافتراضي (الإنترنت)، التي وفرت لها فرصة استثنائية لاكتتاب المتطوعين والتواصل معهم، من أجل تنفيذ عمليات القتل المروعة التي هي مضمون رسالتها العدمية.

ولا شك أن ملاحظة كيبل صائبة، وتفند بوضوح الانطباع السائد باستناد المجموعات الإرهابية المتطرفة لقاعدة ولاء عريضة في الشارع العربي والإسلامي، سواء لاستثمارها للرأسمال الديني في التعبئة العقدية، أو استغلالها لنكبات الأمة ومآسيها (خصوصا في فلسطين والعراق). والحقيقة التي لا مراء فيها، أن القاعدة الشعبية العريضة تفرق بين لون المقاومة المشروعة وتلك الحركات العدوانية العدمية، وقد كشفت ردود الفعل في البلدان المستهدفة وفي أوساط الجاليات المسلمة في الغرب عن هذه الحقيقة الساطعة.

بيد أن الإشكال المنهجي العصي الذي يطرحه الإرهاب يتمثل في أن سبل مواجهته تؤدي في الغالب إلى السقوط في فخه، وتفضي إلى تغذية الأرضية الملائمة لتعزيزه وتفريخه.

ويبدأ هذا المشهد بالتغطية الإعلامية الشاملة لحوادث الإرهاب بإبراز فظاعتها وحجم تدميرها، وهو المقصد الأساس الذي تسعى إليه الحركات المتطرفة للوصول إلى الناس، تخويفا وضغطا وتعبئة.

فوسائل الإعلام العربية والغربية بانجرافها إلى هذا الفخّ تخدم الاستراتيجية الاتصالية التعبوية للمجموعات الإرهابية التي لا تبحث في عملياتها التدميرية عن أكثر من هذا المسرح المخيف المستقطب للأضواء، حيث تمتزج أقصى درجات التضحية (الانتحار من أجل القضية) وأعتى وسائل الهدم.

وحتى لو كان من المقبول ـ بل من المطلوب ـ تغطية هذه الأحداث العدوانية بالصورة والتحليل، إلا أن استئثارها بالشاشة، قد ينجم عنه خدمة أغراض الحركات الإرهابية في هدفيها المزدوجين: تكريس القطيعة بين المسلمين وغيرهم سواء داخل المجتمعات الغربية بعزل الجاليات المسلمة وإقصائها، أو ما بين الدول الإسلامية والخارج خصوصا البلدان الغربية، واستغلال شعور الخوف والضعف لدى المجتمعات الغربية الديمقراطية المتقدمة، للضغط على حكوماتها أو حتى إسقاطها (كما وقع في إسبانيا عام 2004).

أما الفخّ الثاني الذي سقط فيه الكثير من المحللين والمفكرين فهو نقل الصراع مع الإرهاب إلى الموقع الخاطئ، بالبحث له عن خلفيات عقدية وثقافية داخل منظومتنا الدينية والحضارية.

ولئن كان هذا الاتجاه بدا جليا في عدوانيته لدى العديد من الكتاب الغربيين، إلا أننا لمسناه بوضوح لدى بعض كتابنا المرموقين الذين انساقوا وراء نغمة الربط بين وثوقية المعتقد والعدوانية إزاء الآخر، سواء بحصر هذه الثنائية في الإسلام أو تعميمها إلى باقي الديانات التوحيدية. ودون الولوج إلى هذا الحوار الذي يخرج بنا عن نطاق اهتمأمنا الحالي، نكتفي بالقول أن هذه المقاربة تفضي إلى دعم الإرهاب من وجهتين هما من جهة إضفاء «شرعية» دينية على اتجاه هامشي ومعزول داخل الثقافة الإسلامية ومن جهة أخرى تسويغ فكرة القطيعة الحضارية بين الإسلام والغرب وتبرير أطروحة استهداف الإسلام والعداء المتجذر له.

ولئن كانت دعوات الإصلاح الديني قد تتالت في السنوات الأخيرة لأسباب بديهية لا غبار عليها، إلا أن فكرة الإصلاح يجب أن لا تتخذ ذريعة لهدم أساسيات الدين ومرتكزاته، بل يتعين أن يكون مدارها تجديد أنماط تأويل وقراءة النص، كما كان الشأن في التجربة الغربية نفسها.

أما الفخ الثالث فيتعلق بطبيعة المقاربة الأمنية في مواجهة الإرهاب التي كثيرا ما تميل إلى تقييد الحريات وانتهاك القوانين والخروج على الشرعية طلبا للنجاعة، وبحثا عن سبل غير اعتيادية للتعامل مع خطر غير مسبوق لا هو بالجريمة العامة المألوفة ولا بالحرب المتكافئة.

بيد أن الدول الديمقراطية عندما تنساق إلى مثل هذه المقاربة تخدم في نهاية المطاف استراتيجية المجموعات الإرهابية من عدة أوجه، خصوصا بالتشكيك في صدقية ونجاعة النظام الديمقراطي نفسه، الذي إن خرج عن مرجعيته الرمزية والشرعية (بصفته النظام الذي يكرس كرامة الإنسان وحريته) التبس بالإرهاب نفسه الذي يحدد بأنه عنف خارج الشرعية.

ولا شك أن التجاوزات والانتهاكات الأميركية الخطيرة في سجن غوانتنامو وفي السجون العراقية قد أوهنت المشروعية الأخلاقية للحرب الأميركية على الإرهاب. والأدهى من هذه التجاوزات هو انبثاق اتجاه فكري قانوني جديد يسعى إلى تبرير هذه الخروق، في سياق أدبيات «الحرب العادلة»: بخلفيتها الدينية القديمة (في التراث المسيحي الوسيط كما لدى توماس الاكويني) والفلسفة الحديثة (الموروثة عن فلسفة ليو شتراوس وكارل شميت).

ومن آخر التجليات الفكرية لهذه المقاربة الكتاب الجديد للفيلسوف الأميركي مايكل والزر «في الحرب والإرهاب» الذي يدافع فيه عن انتهاك مبدأ «عدم التعرض للمدنيين غير المقاتلين» في بعض الحالات الاستثنائية دعاها بـ «الحالات العاجلة العليا» التي تسمح للقائد السياسي بتجاوز أخلاقيات ونظم الحرب إنقاذا للمجموعة.

إن خطورة مثل هذه المقاربة تتمثل في تمييع مفهوم «الإرهاب»، وتقويض المسافة الأخلاقية والقانونية التي تفصله عن الحرب الشرعية، وتحويل المواجهة إلى صراع أخلاقي بين مطلقات تبرر بذاتها صف المواجهة، مما يفضي إلى تبرير جرائم المجموعات الإرهابية، بانتفاء القواعد الشكلية الإجرائية المنظمة للحرب المقننة لاستخدام العنف.

لقد بدأ خطاب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير قويا وشجاعا بعد اعتداءات لندن الأولى، فرفض ربط الإرهاب بالإسلام والمسلمين، كما رفض دعوات تقييد الحريات، واعتبر أن أنجع وسيلة للقضاء على الإرهاب والتطرف، هي الاحتماء بالنظم الديمقراطية، بيد أن التفجيرات الأخيرة خلقت مناخا من الهلع والتذبذب أخشى أن يؤدي ببريطانيا إلى السقوط في فخ حركات الإرهاب، كما حدث في الولايات المتحدة بعد اعتداءات 11 سبتمبر.