رايس.. والتوازن المفقود

TT

من ضمن البنود شديدة الوضوح، في زيارة السيدة كونداليزا رايس الأخيرة للمنطقة، رعاية الانسحاب الإسرائيلي الوشيك من قطاع غزة، والاطمئنان على أن هذا الانسحاب سوف يتم ـ ولو بالحدود الدنيا ـ بقدر من التنسيق مع الفلسطينيين...

وحرص السيدة رايس، ينبع من الحاجة الأميركية، لإظهار أن هنالك انفراجا جديا تم على صعيد العملية السياسية في الشرق الأوسط، وان امكانات التفاوض أضحت منطقية، بعد انهيارات مروعة، وجمود غير مسبوق.

ومع حاجة الفلسطينيين... أكثر من غيرهم. لرعاية السيدة رايس، وإظهار اهتمامها بالمسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي وممارسة بعض الأنشطة مثل تكرار الزيارات، ودعم مهمة الجنرال وورد، وتقديم بعض الدعم المالي أو التشجيع على تقديمه..

إلا أن الفلسطينيين، وبكل ما يملك رئيسهم من قدرة على الواقعية السياسية، يشعرون بالخوف ـ وهم محقون في ذلك، جراء انعدام التوازن.. بين الموقف الأميركي المعلن، ودرجة الاستجابة الإسرائيلية لهذا الموقف، بل أنهم، ومن خلال مراقبتهم لمجريات سياسة شارون. وتكتيكاتها، وفصولها. يرون أن قدرة تأثير شارون على السياسة الأميركية لا تزال عالية، وان إمساكه بزمام المبادرة بشأن الانسحاب من غزة، وفر له موقع ابتزاز فعّال، ليس للفلسطينيين وإنما للأميركيين قبلهم.

ولقد عزز هذه المخاوف الفلسطينية، نموذج الجدار. الذي كانت السيدة رايس أكثر الساسة العالميين شعورا بأثره التدميري على عملية السلام. بل أنها من شجع الرئيس بوش على إظهار موقف في غاية القوة تجاه (الجدار الأفعى) ومغزاه السياسي الخطر، والأخلاقي الأكثر خطورة، إلا أن شارون تمكن من احتواء الموقف الأميركي أولا. ثم القفز عليه ثانيا.. ليعلن بين يدي الانسحاب الوشيك من غزة استمرار بنائه.

غير أن الفلسطينيين، وهم يشعرون بقسوة الموقف الإسرائيلي وضعف تأثير الأميركيين عليه، يواصلون محاولة تحقيق ما أمكن من التوازن، إذ ليس أمامهم من خيارات أكثر فاعلية، فهم يعرفون جيدا محصلة الموقف العربي، ومدى فاعلية الجهد الأوروبي، ويعرفون أكثر. مدى قوة الأمر الواقع الإسرائيلي، ورغبة جميع القوى في التكيف معه قبل العمل على تغييره.

ولكن، كيف يستطيع الفلسطينيون، تحقيق أي قدر من التوازن في المعادلة الأميركية ـ الإسرائيلية، وهم يعرفون، الحقائق القوية التي تحكم العلاقة بين الجانبين، بأبعادها التاريخية والاستراتيجية وحتى التفصيلية... فالواقعية الفلسطينية، تعي صعوبة اقتحام المحرمات الأميركية الإسرائيلية المشتركة، وتعي كذلك تواضع المساحة المتاحة للفلسطينيين في المنطقة الأميركية الإسرائيلية... إلا أنهم ـ وهم يعون ذلك ـ يدركون أهمية المحاولة، ويدركون كذلك حتمية الاستمرار في بذل الجهود، لإقناع الأميركيين بأهمية توسيع هذه المساحة، ليس من اجل العدالة و إنما من اجل مقومات الاستقرار في المنطقة ككل.

وهنا، يتعين على الفلسطينيين، توجيه رسائلهم ـ بالسلوك وليس بالمجادلات المنطقية. فالجميع يعلم حجم الظلم الواقع على الفلسطينيين.. وأكثر الذين يعلمون هم صناع هذا الظلم

والجميع يعلم... عدالة المطالب الفلسطينية، بدءاً من تحسين شروط حياتهم اليومية، وانتهاء بتحقيق آمالهم في إقامة دولتهم، وحل قضية اللاجئين..

غير أن ما يحرك السياسات ويؤثر فيها، ليس مجرد اكتشاف الحقائق، ووضع اليد على مكان الظلم والعدل، وإنما سلوك كل طرف، وجدارته بالدخول في حسابات مصالح الآخرين على نحو يكون فيه الإلغاء مستحيلا...

وهذه المعادلة تنطبق على الفلسطينيين تماما، ولكن ليس بوضعهم الراهن، وإنما بالوضع المطلوب أن يكونوا عليه.. والمقصود هنا، إثبات الجدارة في كل المجالات التي تكون دولتهم العتيدة، ونظامهم السياسي، وحتى الآن تبدو الجدارة في دائرة الشك. إن السياسة في زمن القطب الواحد، والعولمة، والمتغيرات المتسارعة في قواعد اللعب والتحالف ووضع السياسات، أضحت أشبه بالبورصة المالية شديدة التقلب والصعود والهبوط، وضمن هذا المقياس يتواصل هبوط «السعر الفلسطيني» في سوق التداول النشط، ليس فقط بفعل الحرب الشرسة التي يشنها شارون، وإنما بفعل التبديد المجاني لما تبقى من رصيد فلسطيني، راكمه الصمود الصعب والتضحيات الجسام، والحاجة الدولية للاستقرار.

وقبل وصول السيدة رايس، كان الفلسطينيون قد وقفوا عند اقرب واخطر حدود المحرمات، ورغم كثافة التطمينات الإعلامية من جانب قادتهم، إلا أن الخوف ما زال مقيما في النفوس، وغياب الضمانات الذاتية القوية ظل ماثلا أمام كل من يتابع.

وحين يكون المشهد على هذا النحو، والأداء بهذه الصورة غير المنطقية، فان الوضع الفلسطيني بمجمله لابد وان يدفع الثمن، والثمن هذه المرة...

تراجع ملحوظ في مواقف القوى المؤثرة، وبالنسبة للسيدة رايس، فان توجيه نداء لشارون كي لا يغلق غزة ولا يحولها إلى سجن كبير يبدو أكثر من كاف.

إلا أن فرص الفلسطينيين، ورغم كل الإهدار والتبديد الذاتي، تظل قائمة، وتظل متجددة كذلك، فهي فرص تتشكل بفعل قوة الحاجة اليهم، حين يكون الاستقرار مطلبا دوليا،. وهنا، يتعين على الفلسطينيين، الذين ذاقوا مرارة الرعب من احتمال نشوب حرب اهلية لأسباب غير قوية.

وشاهدوا تراجع مكانة قضيتهم، في زمن التوترات الدولية المتسارعة والمفاجئة، يتعين عليهم ان يدققوا كثيرا في سلوكهم خلال هذه الفترة شديدة الحساسية من تاريخهم.

وان يقيّم كل طرف من اطراف الحياة السياسية الفلسطينية حساباته على قاعدة ان الحالة الفلسطينية ـ موضوعيا ـ هي حالة واحدة... اما ان تتقدم كلها... او تتراجع.

وان المختلفين الى حد الاقتتال، لابد وان يواجهوا نفس المصير ـ حتى لو تغلب منطق طرف على منطق الطرف الاخر.

لو ادرك اقطاب الصراع الداخلي هذه البديهيات ـ والوقت لم يفت بعد ـ فلربما يحصد الجميع ثمنا مجزيا للانسحاب الاضطراري لشارون من غزة.. وان لم يدركوا فالنار النائمة تحت الرماد بفعل الخجل ليس الا. قد تشتعل من جديد....

على نحو يضطر الاصدقاء والوسطاء الى مزيد من التواضع في الدعم، والاكتفاء بطلب الحد الادنى، الاقرب الى المبادرات الخيرية.... منه الى الحلول السياسية الجدية.

وزير الإعلام الفلسطيني السابق