الرئاسات العربية... بين الزهد والتعمير

TT

تحدث بين عقد وآخر في مجتمعات الحكم في العالم العربي مفاجآت من النوع الذي يبعث الطمأنينة في نفوس الرعية التي لا تجد اجابة عن السر في ان بعض الذين يصلون الى الحكم يتسمرون فيه ولا يعطون فرصة لغيرهم.

من هذه المفاجآت ما حدث ذات يوم في السودان عندما انقلب البلد على رئيسه جعفر نميري، الذي كان يتحادث ويتداول في واشنطن وأُنيطت السلطة بثنائي عسكري ـ مدني هو الفريق اول عبد الرحمن سوار الذهب والطبيب المتباعد عن العمل السياسي الجزولي دفع الله. وعندما تعهَّد هذا الثنائي بتسليم الوديعة الى الأحزاب بعد فترة انتقالية لا تتجاوز السنة الواحدة، فإن الأمر بدا كما لو انه نكتة اذ كيف سيسلِّم السلطة جنرال، وسمعة الجنرالات في موضوع الحكم تشير الى انهم يخوضون انقلابات من اجل الحصول عليه. ولكن الذي حدث مع انتهاء اليوم الاخير من المدة المحددة هو أن سوار الذهب قال لزعماء الاحزاب السودانية ما معناه ان الشعب ترك في عهدتي امانة وها انا اعيدها اليكم. ومن شدة الدهشة التي اصابتهم فإنهم لم يتريثوا في تسلُّم الأمانة وجاءت مسارعتهم، ومن دون القول: ولماذا هذا الاستعجال، منطلق الشك في ان الفريق اول سوار الذهب قد يكون من المناورين. لكن الرجل كان عند كلمته. وفي تقديري انه استعجل، وان إبقاء الأمانة في عهدته سنة اخرى او اكثر، ما دام اثبت انه على درجة من النزاهة وليس طالب سلطة كان سيفيد السودان اكثر. ونقول ذلك على اساس ان المرحلة التي تلت تسليم السلطة الى الاحزاب كانت حافلة بصراعات وتناقضات اين منها تلك التي اشتهر بها لبنان والتي بلغت الذروة في هذه الايام.

لم يخسر سوار الذهب شيئاً، ذلك انه اتخذ قراره عن اقتناع، وأراد في الوقت نفسه دحض الانطباع الذي ساد لبعض الوقت في المجتمع السياسي السوداني، وهو أن رئيس البلاد وثق به وأنه لم يلتزم بالقسَم الذي اداه وانه تصرَّف تصرُّف الإنتهازيين وكل ذلك من أجل أن يصبح رئيساً للسودان على أساس أن نميري ليس افضل من سوار الذهب. وهذا الظن يتعب ضمير السوداني عموماً، وأتضح بعدما انصرف سوار الذهب الى الاهتمامات الدينية والعمل في اطار مؤسسات إسلامية، ان الرجل أراد إسقاط هذه الظنون من تفكير بني قومه وجاء رد الأمانة الى الاحزاب، كمن يريد القول انني لم ارتكب فِعْل الإخلال بالثقة ولم أُقدم على الخطوة الانقلابية على رئيس البلاد الموجود خارج البلاد من أجل أن اجلس مكانه، وإنما الذي فعلْته كان قراءة من جانبي لما يريده الرأي العام.

والقول بأن سوار الذهب لم يخسر انما هي حقيقة يؤكدها كلام الناس في استمرار داخل السودان وخارجه، عن هذا الجنرال الذي اراد ان يكون حالة استثنائية في المجتمع العسكري الانقلابي، وبحيث يؤكد لبني قومه ان الحكم ليس بالضرورة ان يؤخذ غلابا، وان التخلي عنه يمكن ان يتم بالرضا ومن دون دبابة تحتل الاذاعة لتذيع البلاغ رقم واحد ...الخ. وبالمقارنة مع السيرة غير العطرة لبعض الجنرالات العرب فإن سيرة سوار الذهب هي موضع الاحترام. وتتساوى من حيث الاحترام مع سيرة جنرال آخر هو فؤاد شهاب الذي تأمنت له كل مستلزمات تجديد الرئاسة، لكنه عفَّ وارتضى ان يقال عنه في صفحة تاريخ الجنرالات العرب الذين وصلوا الى الحكم ان التسمر فيه ليس امراً مستحباً بل انه ليس ضرورياً على الاطلاق.

وعندما التقت الآراء والتشاور بين اطراف عربية ودولية على ان يتولى نجيب ميقاتي رئاسة حكومة تُجري الانتخابات النيابية للبنان المثخن بكل انواع الجراح، فإن الرجل فاجأ بني قومه بالتعهد أن حكومته ستحقق انتخابات حرة ونزيهة. وتأكيداً منه لهذا التعهد قال انه لن يرشح نفسه للانتخابات. واستقبل القوم هذا التعهد بالكثير من علامات الاستفهام والتعجب، ذلك ان ميقاتي رجل اعمال مقتدر مالياً ولا خوف عليه من السقوط في الانتخابات إن هو خاض غمارها. وبقي اللبنانيون في حال من الترقب الى حين تم تحديد مواعيد الانتخابات ولم يرشح ميقاتي نفسه. وكان الرجل عند تعهده وخسر المقعد البرلماني كونه لم يشارك لكنه ربح احترام الناس حيث ان الحديث حوله هو عن رجل سياسة وعَد وصدَق. ولم تقتصر الخسارة على المقعد النيابي وانما شملت امكانية ان يكون هو رئيس مرحلة ما بعد الانتخابات، ما دام حقق هذا الرصيد العالي من ثقة الناس به. لكن المعادلة العربية ـ الدولية اوجبت ان تكون حكومة برلمان 2005 برئاسة من هو حريري مائة في المائة مثل فؤاد السنيورة وليس مجرد متعاطف مع قضية الحريري ونهجه مثل نجيب ميقاتي.

كانت حالة سوار الذهب وحالة نجيب ميقاتي من النوع العابر، أي بما معناه ان الإثنين لم يستمتعا كفاية بالسلطة ومن اجل ذلك فإن الاستغناء عنها يتسبب في خدوش نفسية وليس في جراح عميقة مثل التي تصيب من يبقون طويلاً في الحكم وإلى درجة

يصبح هؤلاء من فئة المعمِّرين رئاسياً. وجاءت المفاجأة اليمنية مكتملة في اعلان الرئيس علي عبد الله صالح يوم الاحد 17 يوليو (تموز) 2005 تطرح امكانية حدوث حالة جديدة على صعيد الزهد في الحكم، وإن كان هذا الزهد بالنسبة الى الرئيس اليمني الذي مضى على ترؤسه البلاد 27 سنة يبدو نوعاً من السأم من تكاليف السلطة، على نحو السأم من تكاليف العمر. فقد اعلن الرئيس علي عبد الله صالح انه لن يرشح نفسه الى ولاية رئاسية جديدة تُجرى انتخاباتها في سبتمبر (ايلول) 2006 موضحاً حيثية هذا القرار بالقول: «نريد أن نؤسس نموذجاً للتداول السلمي للسلطة في اليمن ونربي انفسنا وأجيالنا على مبدأ التداول، فقد ملّ الناس الزعامات الباقية طوال عمرها على كرسي الحكم».

وهذه المفاجأة من جانب رئيس عربي ما زال أفتى من آخرين تبعث على التقدير، فهي لم تأت رداً على «كفاية» يمنية حاشدة من نوع «كفاية» المصريين. وباستثناء بعض الهمهمات الصادرة عن معارضين تقليديين وتحت شعار «لا للتمديد... لا للتوريث» فإن الساحة اليمنية كانت حتى مفاجأة الرئيس هادئة ثم جاءت الاضطرابات الناشيءة عن رفع اسعار الوقود، وبمثل اضطرابات الاردن وتونس ومصر من قبل احتجاجاً على رفع اسعار الخبز تغطي على ايجابيات تلك المفاجأة السارة.

ما الذي سيحدث يمنياً وعربياً حتى سبتمبر 2006؟

سيكون هنالك ترقب ورصد لمعرفة ما اذا كان الرئيس علي عبد الله صالح سئم بالفعل تكاليف السلطة، أم ان مقتضيات تحضير التوريث هي التي استوجبت مثل هذه المفاجأة. وهذا الترقب ناشىء عن الشك في ان السودانيين امضوا سنة كاملة في حالة انتظار للتأكد من ان الفريق اول عبد الرحمن سوار الذهب سيرد الوديعة الى بني قومه، وان اللبنانيين امضوا بضعة اسابيع كأنها الدهر للتأكد من ان نجيب ميقاتي سيكون عند حسن التعهد بأنه لن يرشح نفسه للانتخابات. وحال اليمنيين مِنْ حال الآخرين.

وأما في مصر التي حالها من حيث الرئاسة المعمِّرة مثل حال ليبيا وقريبة من حال تونس، فإن المسألة محسومة حيث ان الرئيس حسني مبارك على موعد مع ولاية رئاسية جديدة في سبتمبر المقبل... وبعدها يأتي التعهد على نحو ما فعل الرئيس علي عبد الله صالح.