انتفاضة اليمن: ثورة جياع حقا.. أم ثورة أحزاب سلطة؟

TT

نتيجة لما أعلنته الحكومة اليمنية مؤخرا عن عزمها تطبيق جرعة إضافية من جرعات موازنة البنك الدولي، الهادفة إلى إصلاح الاقتصاد الوطني بحسب ما هو معلن، ثارت ثائرة عدد غفير من أفراد الشعب اليمني، وفي عديد من المحافظات، معلنة رفضها الإجراءات الحكومية، ومطالبة بالعودة عما أعلنته الحكومة مؤخرا، وكان جراء تلك المواجهة أن سقط العديد من القتلى والجرحى من الطرفين الحكومي والشعبي، وهو ما يفضي إلى تكريس حالة الحزن في الذهنية الثقافية العربية، نتيجة لما آلت إليه الأمور. لكن السؤال الذي يجب ألا يغيب عن أذهان بعضنا كامن في طبيعة العلاقة بين ردة فعل الشارع في هذا الوقت، ومبادرة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الأخيرة للتنازل عن الحكم، بإعلانه الرسمي عدم ترشيح نفسه لولاية رئاسية أخرى؟ كما أن جرعات البنك الدولي في اليمن ليست بجديدة على وعي الشارع اليمني؟ وفي نفس الوقت فإن الوضع الاقتصادي لن يتأثر بالشكل الكلي، إذ لا فقر بعد الفقر كما يمكن أن يقال؟

إن المتتبع لأنثربولوجيا لواقع حال إنساننا العربي ليدرك أن ذاتنا وإرادتنا قد فقدت أهليتها وبشكل تدريجي ـ منذ دخولها في عالم المدنية إبان العهد الأموي ـ على استجلاء مختلف حقوقها، وإدراك أبعادها بشكل ذاتي من دون وصاية من سلطة، أو إشارة من هيئة، باعتبار ما ترسخ في وعي العقل الجمعي من مفهوم محدد للقضاء والقدر، ومرجعية الرزق الربانية، علاوة على ما تم إشاعته من الإيمان بثقافة الصبر، والاستكانة ـ بعد ممارسة الدعاء ـ للمخرج الإلهي، ولذلك فإنه ولما حاول الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، الخروج بدعوته من قيد هذا المسار، والبحث عن حقوق المجتمع المادية داخل أوكار رأس المال، لم يستمع له الشارع في حينه، كما لم تترك له الفرصة بعدئذ لتربية الذهنية على ذلك، وكان ما كان من أمر نهايته في الربذة.

ولا أحسب أن ثمة ابتعادا عن الصواب بمثل هذا القول، ذلك أنه لم يتأت لنا معرفة، ومن ثم هضم، ثقافة ما يتوجب علينا من حقوق وواجبات قانونية إزاء مؤسساتنا المجتمعية، باعتبار مرجعيتها الدينية عبر صورها المتنوعة (خلافة، إمامة) إلى غير ذلك، مما أصبغ مسيرتها بصبغة الفعل المقدس الذي ليس لنا الخيار في معارضته أو مناقشته، إلا ما كان من بعض محاولات الإصلاح والتغيير، وكم بسيطة هي في ذاكرة الزمن، فيما لم يتغير ذلك ذهنيا بعد سقوط الهيكل الخارجي للسلطات السياسية الدينية منذ مطلع القرن المنصرم، حيث تمسكت السلطات الشعبية البديلة بجوهر الفكرة الدينية السابقة، لتحل بديلا عنها بشكل أو بآخر، الأمر الذي لم يسنح فعلا بتكثيف ثقافة المجتمع المدني عبر مؤسساته الأهلية بين ظهرانينا.

وتقديري أن ذلك يدفع لحالة من التشكك في قدرة الشارع العربي، ذي الذهنية التاريخية العتيقة، في ملامسة متطلباته بشكل مباشر، وبوعي ذاتي، وبدون وصاية من أحد.

واليمن واحد من تلك الأقطار العربية التي وإن تطورت أشكال مؤسساتها المدنية شكلا، فإنها بقيت حبيسة موروث تاريخي منعها من التقدم صوب ملامح المجتمع المدني بشكل واضح وسلس.

وبالنظر إلى واقع الحياة السياسة في اليمن وبخاصة مع مطلع تسعينات القرن المنصرم، نجد أن حزب المؤتمر الشعبي، الحزب الحاكم، علاوة على الحزبين الاشتراكي، والإصلاح، قد هيمنت بكوادرها على مجمل مفاصل الصراع داخل خبايا المجتمع اليمني. ومع انزواء الحزب الاشتراكي عن الساحة السياسة، جراء حرب سنة 1994م التي مني فيها بهزيمة عسكرية أمام شريكه في الحكم حزب المؤتمر، أخذت حلقات الصراع السياسي في التجاذب المحوري بين الحزب الحاكم وهو المؤتمر، والحزب الرديف ـ إن جاز القول ـ وهو الإصلاح ، الذي حاول المشاركة في السلطة بكل قواه، وعمل على تسيد الموقف الشعبي بكل قدراته الدينية والدعوية باعتبار هويته السلفية من جانب، والإخوانية من جانب آخر، إلا أنه فشل في الوصول إلى مراده بالصورة التي يخطط لها، ثم كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي غيرت موازين القوى داخل اليمن، وضعضعت من حجم حزب الإصلاح على الصعيد الإقليمي، وهو ما أدركه منظرو الحزب وقياديوه، فحرصوا على الانكفاء خلف السلطة، والأمر كذلك في تصوري للحزب الاشتراكي الذي عمل على التناغم بقدر الإمكان مع واقع الحال السياسي، وإعادة أوراقه الهيكلية بالشكل الذي يسمح له بالبقاء ضمن أجواء المجتمع اليمني السياسية، في ظل تنامي قوة حزب المؤتمر الحاكم على الصعيد السياسي والشعبي، الإقليمي والدولي، وهو ما ينذر بفشل محاولات أقطاب الصراع لمشاركة السلطة على الأقل في سمات الحكم العامة.

وجاء الإصلاح الحكومي الأخير فرصة سانحة لإعلان الوجود السياسي ضمنا لمختلف أحزاب الصراع الرئيسة من جهة، ولتكشف تلك الأحزاب عن عجز الحزب الحاكم وقدرته على تحسين الأحوال الاقتصادية، في محاولة استباقية لقطع الطريق على مرشحه القادم للسلطة، والعمل من خلالها على تلميع بعض القيادات المحسوبة على الحزب الرديف (الإصلاح) في حال ترشحه للسلطة مستقبلا.

* باحث في الشؤون اليمنية