إدارة المعركة ضد الإرهاب.. في منطقة الدماغ والعقل والفكر

TT

تغشى الكاتب ـ احيانا ـ غاشية من الأسى، ولا نقول (القنوط). فالانسان المؤمن لا يقنط من روح الله قط، وما ينبغي له. مبعث الأسى: ان كثيرا من السياسيين وصناع القرار، في عالمنا هذا، لا يكترثون بـ (قيمة الأفكار وأهميتها) إلا بعد ان تقرعهم القوارع المزلزلة.

مثلا: في نشوة الفرحة بتصدع الدولة الشيوعية الكبرى وتدهورها (الاتحاد السوفياتي)، كتبنا في هذا المكان، في يوم 1993/3/3 نقول ـ تحت عنوان: لئلا يفاجأ العالم بما هو أسوأ من الشيوعية ـ

«وقد لا تعود الشيوعية بحجمها وتأثيرها السابقين، ولكن من المحتمل: ان يظهر مثيل لها: فلسفي وفكري وسياسي وحركي ـ بتحوير في النوع وتغيير في الصورة والاخراج ـ او يظهر ما هو أسوأ منها من حيث التصوير المظلم للواقع القائم، والتحريض المطلق على نسفه. ومن حيث القدرة على (التعبئة) بعوامل التوتر والتذمر والسخط. ومن حيث مضاعفة كم العنف والبطش. ومن حيث التنظيمات السرية ـ ذات الشكل العلني الرمزي ـ: المزودة بتقنية معينة في استخدام اسلحة الهدم وادوات التخريب، والمزودة ـ كذلك ـ بأساليب تجميع الناقمين في العالم، على اختلاف بواعثهم، في شبكة عالمية، تهدد الأمن الدولي، واستقرار الانظمة، ومدنية الانسان .. ان الخيال السياسي الغربي ـ والعالمي ـ ينبغي ان يستحضر هذه المخاطر جميعا ـ ونظائرها المحتملة ـ، وان ينشغل بها».

لكن هناك (أمل مكافئ) .. هناك من يعترف بهذه (الغيبوبة العالمية) عن المخاطر المحتملة.. ومن يقر بـ (خطورة الأفكار) الشريرة فيزيل ـ بذلك ـ غواشي الأسى، ولو بعد حين. وفي طليعة هؤلاء: الزعيم السياسي البريطاني: توني بلير. فقد ركز تفكيره في الاسبوع الماضي حول هاتين المعضلتين الفكريتين الأمنيتين السياسيتين الحضاريتين: معضلة: الغيبوبة السياسية.. ومعضلة خطورة الافكار. قال بلير: «ان كثيرا من دول العالم افاقت من النوم بعد هجمات 11 سبتمبر، ثم عادت الى السبات مغمضة عينيها ايضا.. ان الضعف الاساسي الذي تعاني منه جهود مكافحة الارهاب يتمثل في عدم مواجهة الافكار ولن نتمكن من معالجة هذه المشكلة حتى نتصدى لهؤلاء الاشخاص، ليس على مستوى وسائلهم، وانما على مستوى فكرهم بصفة اساسية».

وللمرة العاشرة.. والسبعين، نجد انفسنا ملتقين مع توني بلير. فهو قد شاركنا الأسى على غفلة سياسيي العالم عن المخاطر المحتملة، وعن النذر التي تجاهلوها.

اما (خطورة الافكار)، فهي قضية القضايا، وجذر الازمة، ومنبع المخاطر.. ولقد ألفنا فيها كتابا كاملا بعنوان (الأدمغة المفخخة).. وكانت العبارة الواصفة الشارحة ـ على الغلاف ـ هي (كل جريمة ارادية على الارض، مسبوقة بفكرة شريرة في الدماغ).. هكذا: بهذا الاستغراق واليقين.

ان الفكر الارهابي هو الجريمة في (مرحلتها الذهنية الجنينية). اما الفعل الارهابي فهو (الصورة المادية الملموسة المشهودة): لذلك الفكر.. فالسيارة او البناية المفخخة، او الجسد المفخخ.. نتيجة تلقائية لـ (الادمغة المفخخة). ومن هنا، فإنه مهما اتسعت دائرة البحث عن اسباب الارهاب والعنف، فإن سبب (الانحراف الفكري) سيظل محتفظا بمكانته الاولى، وبتأثيره الغالب.

نعم.. نعم.. مائة ترليون نعم: الدماغ المفخخ هو منبع الشر، ومصدر الكوارث.. وما التفخيخ؟.. الفخ ـ لغة ـ هو: المصيدة.. فالتفخيخ ـ من ثم ـ هو (ان يُجعل الدماغ البشري مصيدة وكمينا) لبلوغ اهداف فكرية او اجتماعية او سياسية. اما (العبوة) في الكمين فهي (افكار ذات قدرة تدميرية عالية).

خذوها: واضحة صريحة عميقة قاطعة: لا يمكن مواجهة العنف والارهاب إلا بادارة المعركة الكبرى في المخ والدماغ، في العقل والفكر والفؤاد والوجدان.. واسلحة المعركة هي: الادمغة النظيفة، والعقول الكبيرة الراشدة، والافكار الصحية السوية، والمفاهيم السديدة العاقلة العادلة المتألقة بأنوار الحق والخير والانسانية والنزاهة وفوح الضمير الحي، والقلب السليم، والقصد القويم.

ثم ان كلمة توني بلير كانت مفعمة بمفاهيم اخرى عديدة: خليقة بالتعضيد والبسط والتأصيل:

1 ـ مفهوم: انه لا يجوز ايجاد المعاذير لهذا البطش الدموي الاعمى الذي تعارف الناس على تسميته الارهاب.. والحق انه لا ينبغي لانسان يحترم نفسه، ويحترم النوع الانساني الذي ينتمي اليه: ان يتورط في ايجاد معاذير للارهاب، ذلك ان التورط في مثل هذه الهاوية، يسقط صاحبه في هاويات لا نهاية لها: هاوية ايجاد عذر لقابيل في قتل شقيقه هابيل: تمشيا مع منطق القاتل، أو الارهابي الاول في تاريخ البشرية. منطق: ان الله تقبل قربان هابيل، ولم يتقبل قربان قابيل!!.. وهاوية ايجاد عذر لستالين وهو يذبح ملايين الناس من الشيوعيين وغير الشيوعيين. فقد كان يسوغ ما يفعل بأنه (ضرورات) أمن الدولة التي تعلقت بها سعادة العمال والناس أجمعين في العالم كله.. وهاوية ايجاد عذر لهتلر الذي فجر حربا عالمية هلك فيها عشرات الملايين من القتلى المشوهين والمجانين.. فقد كان هتلر ـ في كتابه: كفاحي وغيره ـ يسوغ جنونه العنصري والعسكري بأنه: ثأر لألمانيا من اعدائها الذين أذلوها في الحرب العالمية الأولى، وفي الاتفاقات التي ترتبت عليها.. ان الظلم نفسه: ليس عذرا لارتكاب ظلم مماثل له، أو اشد منه. ولو أن كل إنسان ظلم: رد الظلم حسبما يشاء، وكيفما يهوى، لما انتظمت حياة الناس على هذا الكوكب.. ولنتصور: لو أن كل إنسان شعر بالظلم ـ حين ينطق القاضي لصالح خصمه ـ: قام فقتل القاضي أو خصمه بناء على هذا الشعور.. لو حدث هذا: ألا تكون غابة الحيوانات الضارية: أرحم والطف من حياة بني الانسان في مدنيتهم؟!

وأبده من البديه: أن نقول: إن هذا الكلام لا يتضمن ـ قط ـ ذرة واحدة من: إقرار المظالم في الأرض، فليس هناك قبح يتمثل فيه السوء البشري كله: أقبح من الظلم. لكن الظلم لا يزال بظلم مماثل أو أكبر، لا سيما اذا نزل هذا النوع من الظلم على الابرياء المسالمين الغافلين الغادين والرائحين من أجل مصالحهم ومعايشهم.

2 ـ مفهوم: دفع التهمة العامة الظالمة عن السعودية. فقد قال توني بلير: «من الخطأ القول ان كل هذا الارهاب في لندن وغيرها قد أتى من العربية السعودية. هذا غير صحيح».. ان الرجل أعقل وأعدل وأشرف من أميركيين مفترين: التاكوا تلك المقولة المفتراة.. بل هو أعقل وأعدل وأشرف من عرب ومسلمين قاموا بـ«دور الكومبارس» في ترديد الفرية التي افتراها نفر من الأميركان.. بل هو أعقل وأعدل وأشرف من بعض السعوديين (الذين جاهدوا) كثيرا لاثبات ان السعودية هي مصدر الارهاب وبيئته، وان ثقافتها هي منبعه وغذاؤه!

وبعيد أن يكون بلير قد جهر بهذه الحقيقة: مجاملة للسعودية، ذلك ان ما يتعلق بالأمن الوطني البريطاني، قضية لا تحتمل المجاملة الدبلوماسية للآخرين: السعوديين أو غيرهم. وإنما جهر الرجل بتلك الحقيقة، لأنه رآها في ملفاته الأمنية، وكان أمينا في الجهر بها.

3 ـ ومفهوم (الترشيد والاشراف، لا المصادرة ولا التجفيف). قال الرجل البريطاني العاقل: «ينبغي الاحتفاظ بالمدارس ذات الاشراف الديني التي سمح للمسلين أخيرا بأن يؤسسوا عددا منها. فالانصاف يقتضي انه اذا لم يسمح للمسلمين بأن يقيموا هذه المدارس، فهذا يعني انه لا ينبغي السماح للكاثوليك واليهود باقامة مثلها ايضا. اني لا اوافق شخصيا على الغاء المدارس ذات الاشراف الديني. ان الابقاء على المدارس ذات الاشراف الاسلامي من شأنه ان يجنب الاطفال تلقي دروس دينية متشددة من قبل معلمين غير قادرين على تحمل المسؤولية».

وَىْ!! لكأننا في عيد!!.. لماذا؟ ـ لأن العقل الانساني لا يزال يعمل، ولأن الضمير الانساني لا يزال يعدل.. والحق ان الغاء المدارس الاسلامية ظلم مبين.. ثم ان الحق: ان تركها بلا ضبط ولا اشراف ذريعة الى فوضى تنزل افدح الاضرار بقيم الاسلام، وبالمسلمين، وبالمجتمع البريطاني، ولا يخشى الاشراف والضبط الا عاشق للفوضى، أو مبيت النية على سوء.

4 ـ ومفهوم: تحالف الحضارات وتعاونها ضد العنف والارهاب. وهذه قضية تدارسها توني بلير مع رئيس وزراء اسبانيا، إذ اتفق الرجلان على قيام ذلك الحلف: مشاركة بين الغرب والعالم الاسلامي. ونحن جد شاكرين ومغتبطين بهذا التوجه المستنير الكريم.. أولا: لأنه مترع بمعاني الانسانية والمسؤولية والايجابية.. وثانيا: لأن هذا التحالف كان محور مقالنا الاول في التعليق على تفجيرات لندن، اذ كان عنوان المقال (الحل: قيام تحالف اسلامي غربي ضد الارهاب: بسياسات جديدة).. وليس يسعد الكاتب شيء ـ بعد رضوان الله ـ مثلما يسعده: أن يكون في ما يكتبه مقادير من الصواب: يتفق معه فيها عقلاء من أسرته الكبيرة: الأسرة الإنسانية.

ومن مصادر الغبطة المنهجية: ان في الاسلام (أصلا) لهذا التعاون أو التحالف الانساني ضد وباء استباحة دماء الناس، وترويعهم، وتفجيع اطفالهم: في كل مكان.

ومن البراهين على هذا الاصل والمقصد:

1 ـ ان النبي أقر حلفا ـ ابرم في الجاهلية ـ وقال: «لو دعيت اليه في الاسلام لأجبت». وهو (حلف الفضول). الذي تعاهد فيه عقلاء العرب على صيانة الدماء، وانصاف المظلوم الخ.

2 ـ تعظيم حرمة دم الانسان: «انه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا».. والمحافظة على النفس الانسانية: شأن إنساني عام، لا شأن اسلامي خاص، فالمقصود في الآية (مطلق نفس).

3 ـ ان النبي اقسم ـ في الحديبية ـ على الاستجابة لأي خطة تعصم حياة الانسان من الاستباحة والاهدار.

فلنفتح العين على عقلاء غير مسلمين في هذا العالم، للتعاون الوثيق معهم على هذه القضايا المشتركة، فهم أولى بالتعاون من مسلمين كثيرين لا يتمتعون بهذه الصفات.