.. وإلام هذه الرومانسية مع الإرهاب؟

TT

انزلاق عصابة القاعدة الى ما دون الحضيض في قتل المدنيين ليس بمفاجأة، لكن المفاجأة هي انزلاق المعلقين، بحسن او بسوء نية، الى فخ تحقيق أهداف القتلة نيابة عنهم.

والمعلقون فئتان. الأولى تبدأ التعليق «بكليشيه» ادانة الإرهاب ثم تبدأ حقنة السم «باستثناء» جماعات وأعمال، ثم تقدم حججا، كدعم أميركا لإسرائيل، وإذلال المسلمين والاحتلال كمبررات لجرائم القتل الجماعي.

ولا ينجو أي منبر إعلامي من هذه الفئة وتعريفها المطاط للإرهاب فيستبيح معلقوها دم البعض كأهداف «معادية» لأيدلوجيتهم، وهي غالبا اسلاموية او قومجية.

الفئة الثانية من معدي برامج إذاعية وتلفزيونية، يقدمون للإرهابيين خدمة كبيرة بحسن نية، اما بالحوار معهم، وهي مصيبة; او بمطالبة رجال الدين بالتدخل لمحاورة مجرمين كالظواهري وبن لادن وحمزة وبكري وغيرهم من تجار ايدولوجية الشر وهي مصيبة اعظم، وخسارة أفدح للبشرية ولدين عظيم كالإسلام.

ويغفل البعض ـ او يتعمد تغافل ـ ان الإرهاب هو جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار. لا فارق في جرم قاطع طريق قتل ضحيته بغرض السطو المسلح، وبين قنابل شرم الشيخ، سوى عدد الضحايا، وكلاهما ارتكب جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والتخطيط المسبق وهو يعي ما يفعل.

واضفاء الرومانسية على الارهاب بزج قضايا سياسية وايدولوجية هو مغالطة. بدليل ادانة القضاء لإرهابيين بجريمة القتل مع سبق الإصرار، او ايذاء الاجسام وإتلاف الممتلكات، حسب القانون الجنائي العادي في مصر وبلدان اوروبا، قبل صدور تشريعات الطوارئ ومكافحة الإرهاب بعشرات السنين.

المسؤول الأول عن جريمة القتل في نظر القانون هو مرتكبها، والمتهمون بالدرجة الثانية هم شركاؤه في التآمر والاعداد والتنفيذ، ومساعدته على الهرب، وأيضا المحرضون. ولذا فإضفاء بعد سياسي ليس فقط محاولة بغيضة لتشريع القتل، وإنما ايضا لتضليل العدالة عن رؤية كل اركان الجريمة لمحاكة الشركاء الى جانب المنفذ الفعلي.

تكرار جرائم الإرهاب أخيرا ـ يوميا في العراق، مرتان في تركيا، اربع مرات في مصر، مرتان في لندن وبضع مرات في لبنان وفلسطين ـ دفع بمحطات الأثير لخصخصة آلاف الساعات للظاهرة والصحف لفرد مساحات شاسعة للتحليلات والتعليقات. ووفر هذا كماً ما غير مسبوق من المعلومات بحيث لم يعد لفئة المبررين حجة «للاستعباط» وتسييس جرائم القتل بالتفريق بين ارهاب «ضدنا» ومقاومة مشروعة «ضد الآخرين»، بمبررات «لتفهم دوافع» مرتكبيها «كمنع التعاون مع الاحتلال او الثأر لإهانة الدين».

ولن يستغرق أي محام دقائق معدودة لإقناع القضاة والمحلفين بان هذه التبريرات تعتبر مشاركة من الدرجة الثانية في التآمر لتنفيذ الجريمة.

فتبرير جريمة، سياسيا او ايدولوجيا، هو تحريض على ارتكاب اخرى في ظروف مشابهة، كما ان التبرير هو مساعدة للمتهم على الهرب.

فتبرير الجريمة ـ كما يفعل فقهاء الإرهاب مع جرائم الزرقاوي على انها مقاومة ضد الاحتلال مثلا في العراق ـ قد يقنع العامة بالتستر على مرتكبها باعتباره «بطلا» انتقم لهم من اهانة الحكومة، و«قاوم المحتل» بذبح المتعاونين معه، او يساعدون مرتكبها على الفرار.

والملاحظ ان معلقي التبرير يقيمون في بلدان لم تتعرض للإرهاب الذي اصاب مصر وبريطانيا والعراق والسعودية وتركيا ولبنان، كما يتمتعون بمكانة سياسية عالية في منتدياتها وإعلامها، وبعضهم مسؤولون حكوميون او من زعامات الحزب الواحد الحاكم في ديكتاتوريات يبررون بقاءها بمقاومة الإمبريالية والعدو التاريخي. ويتشدقون بقومجية ايدولوجية مبررين الجرائم كدفاع عن كرامة كيان خرافي «كالأمة العربية،» لا يوجد الا في مخيلتهم كبرامج كومبيوترVirtual Reality.

او ما يعرف بالـ CGR اختصار Computer Generated Reality تدفع العقول لتعيش الوهم التصوري كأنه الواقع مثل قصة فيلم ميتركسMatrix، ولذا يندرج التبرير الأيدولوجي للارهاب تحت هذا التصور الـ CGR لأنهم اما لم يكتووا بنيرانه مباشرة او يستمروا في CGR ايهام الجماهير لقبول انظمة انتهت مدة صلاحيتها.

الفئة الثانية من معدي برامج اذاعية وتلفزيونية ـ ليس فقط في اللغة العربية، فقد وقع اعلام بريطانيا وأوروبا في الخطأ نفسه ـ يقدم هؤلاء اعظم هدية للإرهابيين بلصق جرائمهم بالإسلام. ويستدعي المعد فقهاء وعلماء دين اسلامي يطالبهم المذيع، ويتبعه المتفرجون والمستمعون بالإدلاء «برأي الدين» ويقع البعض في فخ الأقتراح بتشكيل لجنة من كبار العلماء لمقارعة بن لادن والظواهري بالحجة!

ومكافأة الإرهابيين برفعهم لمكانة عالم جليل، بالحوار معهم، هو سابقة خطيرة تفتح الباب لأي قاطع طريق بإجبار العالم المتحضر على التحاور معه اذا فجر المواصلات العامة وخطف الطائرات وذبح الدبلوماسيين. بينما يجب ان يكون الجدل بالتي هي احسن والعمل السياسي شرط قبول الإنسان في المجتمع المتحضر.

الأمر الأكثر خطورة، هو تحقيق اهداف القتلة «بتقديس» جرائمهم بربطها في اذهان الناس بالدين، مما يضيع هباء جهود دبلوماسيي البلدان الإسلامية وعلماء الدين الذين يحاولون الفصل لدى الرأي العام بين الإسلام وبين الإرهاب.

إذاعات ومحطات وصحف اوروبا وأميركا، لها العذر ـ خاصة وان الإرهابيين يسمون انفسهم باسماء اسلامية; لكن ما هو عذر محطات وصحف البلدان الإسلامية والناطقة بالضاد؟

وهناك تقليد يشكل خطرا على الصحة العقلية للصحافيين والقراء في صحف اللغة العربية لا اجد له تفسيرا سوى كسل صحافييها ورفضهم الابتكار. وهو اقحام الدين في أي تحقيق عن ظاهرة او احداث دنيوية لا علاقة لها اصلا بالفتوى. فإذا كان الصحافي يتابع جراحة مبتكرة او برامج كومبيوتر جديدة او موضة للملابس او ريجيما للتخسيس او اختراعا علميا، تجده يدفع بالميكروفون في وجه الفقيه لمعرفة رأيه! ثم تثار مشكلة «تحليل» او تحريم استخدام «البدعة» او اجراء الجراحة، رغم ان رجل الدين غالبا ما يفضل الابتعاد عن صداع الأمور الدنيوية. (واذكر في مصر قبل اربعين عاما كيف استفتت مجلة اسبوعية رأي رجال الدين في تحقيق لإقناع النساء على بلاجات الإسكندرية بارتداء «مايوه شرعي» قطعة واحدة بدل البكيني !).

ويتضاعف خطر هذه الظاهرة على الصحة العقلية العامة باقحام الصحافة لرجال الدين في تفسير الارهاب. ومن الحكمة ترك الدين خارج الموضوع والتعامل مع الإرهاب كجرائم يحقق فيها البوليس ويجمع الأدلة لإقناع المحكمة بوضع القاتل وراء القضبان، لأنه من الغفلة الانسياق وراء تبرير القاتل بأنه يطبق تبع فتوى اصدرها الظواهري او ابو حمزة.

فكلام قاطع طريق وزعيم عصابة للقتل والخطف وتهريب الهيروين من افغانستان كالظواهري هو مجرد «تحريض» على القتل يجعله مشاركا من الدرجة الثانية، وليس فتوى، ونخطئ نحن كصحافيين بإهانة الدين ورجاله بإقحامهم فيها.