العالم العربي : هل يمكن تجاوز هذا الشلل السياسي..؟

TT

تحركت الجامعة العربية فجأة من أجل عقد قمة عربية طارئة، ولم يكن عمرو موسى الأمين العام للجامعة ليفعل ذلك، لولا أنه وجد رغبة عربية تتطلع إلى هذه القمة. وقد كانت القمم العربية تنعقد في العادة من أجل هدف ايجابي، من أجل تفعيل موقف عربي باتجاه ما. ولكن هذه القمة تنعقد لمعالجة نزعة سلبية، فالسياسة العربية مشلولة، وهي تريد أن تبحث في هذا الشلل الذي تعيشه، بعد أن أصبح الشلل عبئا لا يمكن احتماله.

لقد أعلن عمرو أن القمة ستنعقد من أجل البحث في الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة، ولكنني لا أعتقد أن هذا العنوان المغري هو الدافع الحقيقي لانعقاد القمة. إن الدافع الحقيقي يمكن طرحه بشكل معكوس، فقد أصبحت الدول العربية لأول مرة، خارج نطاق البحث في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. إن كل شيء يتقرر بعيدا عنها. لا بل إن سياسات كثيرة تتقرر تحديا لها. إسرائيل تقرر أنها ستنسحب من قطاع غزة، ولكن لا أحد يعرف ما هو مصير القطاع بعد الانسحاب، هل هو أرض محررة؟ هل انتهى الاحتلال الإسرائيلي للقطاع؟ هل سيمتلك القطاع الاستقلال والسيادة؟ لا أحد يملك جوابا على هذه الأسئلة، ولا حتى الفلسطينيون الذين سيتولون السيطرة على الوضع بعد ذلك. لا أحد يمتلك جوابا على هذه الأسئلة، ولا حتى المصريون الذين سيتولون مهمة الإشراف على معبر فيلادلفيا للسيطرة على حركة التهريب بين سيناء والقطاع، والذين سيدربون الشرطة الفلسطينية التي ستتولى ضبط الأمن.

إسرائيل تقرر أنها ستواصل بناء الجدار الفاصل، وستواصل بناء الجدار بشكل خاص حول القدس، لتفصل بين القدس والضفة الغربية، وستكون القدس والمستوطنات المحيطة بها جزءا من دولة إسرائيل. وهي ستباشر بعد قليل بناء حي سكني، وبناء كنيس، داخل البلدة القديمة، مع كل ما يمثله ذلك من تحد لمشاعر الفلسطينيين والعرب والمسلمين. ويجري هذا كله بقرار إسرائيلي، قرار يقرر مستقبل القدس والضفة الغربية من دون مفاوضات، وبعيدا عن أي اعتبار لخيار السلام الاستراتيجي الذي أعلن العرب أنه خيارهم في إدارة الصراع مع إسرائيل، وها هم يرون أن هذا الخيار قد أصبح خارج التعامل.

ويدرك الحكام العرب، أن هذا التعامل الإسرائيلي المنفرد، الذي يقرر ويبت وينفذ من دون أي التفات لمواقف الآخرين من حوله، لا يمكن أن يبقى منحصرا في تقرير مصير قطاع غزة، أو تقرير مصير الضفة الغربية، أو تقرير مصير القدس بكل معانيها، فهو موقف إسرائيلي لا بد وأن يسحب نفسه على التعامل مع الأوضاع اللبنانية والسورية باعتبارهما بلدين مجاورين لإسرائيل. ولكن ما يلفت النظر أيضا أن هذا الموقف الإسرائيلي المنفرد لا يقتصر على دول الجوار الجغرافي، بل هو يتسع ويتسع ليشمل دولا عربية غير مجاورة. إنه يشمل السعودية بشكل أساسي، والتي يبدو أن سياسة حكومة آرييل شارون بدأت تضعها في نطاق المواجهة المباشرة حتى من دون جوار جغرافي. وقد عبر عن ذلك بوضوح التقرير الإسرائيلي الرسمي، الذي رسم صورة بانورامية للصواريخ التي تحيط بإسرائيل، وجعل من صواريخ السعودية جزءا من هذه الصورة، إضافة إلى لبنان وسوريا وايران. وتعبر هذه الرؤية الإسرائيلية للمخاطر الأمنية المحيطة بها، عن استعداد للمواجهة والحرب يطغى على الاستعداد للتفاوض والسلام.

ويأتي موضوع الإرهاب بعد ذلك، ليضيف عنوانا أساسيا آخر يدفع باتجاه الشلل الذي تعاني منه السياسة العربية. والإرهاب المقصود هنا نوعان: الإرهاب الذي يمارس داخل البلاد العربية نفسها (السعودية ـ مصر ـ العراق ـ سوريا ـ المغرب)، ويدفعها إلى الانشغال بشؤونه وشجونه، ثم الإرهاب الذي يمارس في اوروبا (اسبانيا ـ بريطانيا) ـ اضافة الى اندونيسيا، والذي يلقي بظلال كتيمة على آثاره وامتداداته نحو المحيط العربي والإسلامي، موجدا حالة من الحذر والتلاوم بين هذه الدول الاوروبية وبين بعض الدول العربية.

ثم تأتي ثالثة الأثافي، في السياسة الأميركية التي تتم ممارستها مع دول المنطقة، حيث تلعب هذه السياسة دورا في فرض الشلل على السياسة العربية حتى في نطاقها الثنائي. فسوريا مثلا مشلولة الآن إزاء لبنان بحيث لا تستطيع أن تتعامل معه بشكل طبيعي، والسعودية مشلولة إزاء دول مجلس التعاون الخليجي، حين يبادر بعضها إلى توقيع اتفاقات تجارية من دون عودة إلى المجلس من أجل استشارته أو إعلامه. أما مصر فقد تم شل سياستها الإقليمية منذ زمن، وأدى التدخل الأميركي في السودان مثلا إلى إبعادها عن المسرح السياسي، وهي التي كانت لاعبا أساسيا فيه، ولم تعد علاقاتها مع ليبيا مجدية بعد أن أصبح الطريق الأميركي ـ الليبي مفتوحا على مصراعيه. وتفرض السياسة الأميركية على الرئيس الفلسطيني أن يؤجل التعامل مع كل قضايا السلطة الفلسطينية الأساسية، والتركيز فقط على نقطة أمنية وحيدة عنوانها تأمين خروج هادئ للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة. وعندما يحاول محمود عباس أن يتحدث في السياسة مع الرئيس الأميركي عند زيارته له، أو مع وزيرة الخارجية كونداليزا رايس عند زيارتها لرام الله، لا يسمع سوى وعود اقتصادية، وكأنهم يقولون له إن السياسة تبحث مع شارون، ويتم معكم فقط بحث الشؤون المعاشية والأمنية.

وتعبر هذه المظاهر كلها عن حالة عميقة من الشلل. شلل عن الحركة. وشلل عن اتخاذ القرار. وشلل يطال التنفيذ. والشلل في السياسة هو دائما أخطر ما يواجه القادة والدول. وقد تمادت حالة الشلل في السياسة العربية، حتى أن أي بلد لم يعد متفائلا بالحصول على أي دعم أو مساندة من أي بلد عربي آخر، يحتفظ معه بعلاقات ود وصداقة، مهما كانت المخاطر التي تواجهه. وإذا ارتأى بلد ما أن مواجهة خطر يداهمه يحتاج إلى مد الجسور باتجاه بلد شقيق، يجد أن الشلل الضارب في أعصاب هذه السياسة يمنعه من الحركة.

ولذلك نقول: إن أول ما يحتاجه الوضع العربي هو سعي للخروج من حالة الشلل القائمة، حيث يشكل انعقاد القمة العربية الطارئة المكان المناسب من أجل ذلك. ولكن ما يجب أن نلاحظه هنا أن شلل الدول لا يعالج بتحريك الأطراف والعضلات، إنما يعالج أولا وأساسا بالإرادة والقرارات. وأول ما يتوجب على القادة حين يلتقون في القمة أن يناقشوا كيفية إنهاء حالة الشلل القائمة، ويعلنون لكل من يهمه الأمر أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، سواء كان الأمر يتعلق بالقدس، أو بقطاع غزة، أو بلبنان، أو بسوريا، أو بالسعودية، أو بمصر. لا يمكن استمرار الحالة التي يقرر فيها الآخرون ثم يطلب من العرب كلهم أن يبقوا متفرجين. لا يمكن استمرار الحالة التي يتحرك فيها الآخرون، ثم يطلب من العرب أن يتحركوا فرادى فقط، فما يتعلق بفلسطين يعالجه الفلسطينيون ولا دخل للآخرين به، وما يتعلق بمصر تعالجه مصر ولا دخل للآخرين به، فهذه الانفرادية في التباحث والتقرير تقود المنطقة نحو الهاوية ولا تقودها أبدا نحو الهدوء والاستقرار، ذلك أن غياب الفاعلية السياسية هو المرادف للتوتر والانفجار.

إن القمة العربية بهذا المعنى، هي مسعى لإنقاذ الحكومات العربية من مأزقها، وهي مسعى يسبق كل حديث عن التضأمن والتعاون والضغط المشترك. فما نحن فيه الآن ليس ضعف التضأمن أو غيابه، بل هو عملية «الخنق» التي يواجهها كل بلد عربي على حدة. والقمة المطلوبة هي لفك الحبل عن عنق الإرادة العربية.

[email protected]