العراق: جدلية المقاومة والانسحاب

TT

تبرز قضية الحوار عند كل اخفاق أمني، سواء على مستوى الحكومة العراقية، او على مستوى اداء وتمكن القوات الاجنبية، الا ان السؤال الاهم هو لمن يتوجه هذا الحوار، والذي يحدد الاجابة هو ما إذا كانت هناك جماعة او جماعات يمكن التوجه اليها، وما هو حجمها المؤثر في ايقاف العنف، وهل تمتلك ممكنات عملية يمكن التحاور معها عليها، او حتى لديها مشروع سياسي. فقد حاولت الاطراف التي جربت التفاوض مع الجماعات المسلحة، او من يدعي تمثيلها، ادخالها باختبار عملي لتدلل على قدرتها على وقف العمليات المسلحة لأيام قلائل، لكي يتم التيقن من قدرتها، ثم جاءت مطالبتها بايقاف العنف، ليس في جميع العراق، او حتى في عموم المناطق المضطربة، بل في مناطق معينة، ليتسنى التأكد من قدرتها، ويتم الجلوس معها كطرف مفاوض. الا ان ذلك لم يتحقق ولن يتحقق بسبب نفس الاشكالية، وهي تعدد واختلاف هذه الجماعات، لكن يظل الاهم هو اذ لم تكن هناك قدرة على ايقاف كل العنف، فليتم على الاقل ايقاف الكم الاكبر منه، وهنا يصبح المقصود بلا شك هو العمليات الانتحارية ذات الاثر التدميري الاكبر على الحياة اليومية، وبحسابات الجدوى، فإن العمليات للاشهر الستة الاخيرة كانت محصلة خسائرها 96% من العراقيين مقابل 4% من القوات الاجنبية، لذلك تصبح الجدوى هي التوجه للتحاور وإيقاف العمليات التي تستهدف العراقيين، والمعروف هنا، والذي بات ربما يقيناً، ان القائمين بالعمليات الانتحارية هم من الجماعات الجهادية الوافدة، وهنا يجب ان لا ننساق وراء من يشتت الانتباه عن اهداف هذه الجماعات، بمحاولة ارجاع دوافع عملياتهم الى اسباب عديدة، دون اللجوء الى منهجية بسيطة، وهي التعرف الى ما يقوله اصحاب الشأن والعلاقة انفسهم، عبر بياناتهم ونشراتهم التثقيفية ودلالات عملياتهم.

فإذا كان الهدف انهاء الوجود الاجنبي، فهناك متغير هام حدث خلال الايام القليلة الماضية، حيث تجرأت الحكومة العراقية وطلبت من الادارة الأميركية التعجيل بسحب القوات، وهي التي كانت الى قبل اسابيع قليلة ترفض التحدث في ذلك، بل وطلبت تجديد بقائها، وجاءت استجابة رامسفيلد وزيارته المنظمة للتوافق مع هذا الطلب، الذي استجاب اليه ايضاً، وبتناغم يبدو انه مسبق، قائد القوات الأميركية في العراق، واعلن بأنه سيتم سحب الجزء الاكبر من هذه القوات في الربيع القادم.

لذا فان هذا الاعلان يفترض بأنه سيكون فرصة للذين يقرنون اعمالهم المسلحة، بضرورة خروج القوات الاجنبية، لان يركنوا الى اعادة النظر بأعمالهم، ويسمحوا ببناء قوات عراقية، لكي تعمل على استبدال القوات الاجنبية، والكل يتذكر الخطاب الديني والسياسي القريب من التيار المقاوم، والذي ظل يردد تكراراً بأن جدولة الانسحاب، ولو حتى على سنين، سيعطي املاً ويخفض العنف، ولذا فقد حان الآن دورهم ان يترجموا ما وعدوا به الى الواقع.

وسترافق ذلك استراتيجية اخرى وهي الشروع بترك القوات الاجنبية لعشر محافظات، والمفروض ان هذا سيسحب المبرر الثاني، الذي اعتمدته الجماعات المسلحة بالقول أن الوجود الاجنبي وتبعاته في المدن مستفز ومحرض على الفعل المقاوم، اذ سيكون من شأن هذا الانسحاب ان يعطي الحافز للمدن المضطربة ان تهدئ الاوضاع لكي تعجل بترك القوات الاجنبية لمدنها اسوة بالمدن العراقية المستقرة.

الا انه بالعودة الى طروحات هذه الجماعات فإن اللافت فيها انها تذهب ابعد من هذه المتغيرات، بل ربما ليس لها علاقة بها، اذ هي من الناحية الفكرية لا توجد عندها القابلية او الرغبة لتعديل او تغيير افكارها، وأعضاؤها يكفرون غالبية المجتمع والدولة ايضاً، بل انهم يقفون حتى على يمين بعض الدول ذات السمة الدينية، بل هم اكثر تشدداً من اي نظام ديني قائم، فضلاً عن انهم يرفضون الحوار ولا يؤمنون بالاختلاف نظراً لعقليتهم الاطلاقية.

ومن الناحية الميدانية، يبدو ان عنف هذه الجماعات ليس له علاقة بالوجود الاجنبي، بل ان البعض يرى ان من مصلحة هذه الجماعات بقاء القوات الاجنبية، اذ انها تعطيها غطاءً سياسياً لوجودها في العراق، والوجود الاجنبي يعني اهدافاً سهلة لها، فضلاً عن ان هذا الوجود المحتل يشكل حافزاً لاستدراج المزيد من المتطوعين وإدامة زخم افكارها، بجانب ما تمثله الساحة العراقية من وضع نموذجي لنشاطها باعتبارها في قلب الوطن العربي والإسلامي وليس على اطرافه كأفغانستان، وللتجانس اللغوي والعرقي الذي يسهل لهذه الجماعات الاندماج والاختفاء والتحرك بحرية دون خطر الانكشاف، وللبريق الاعلامي الذي توفره ساحة العراق والذي هو الغاية القصوى لهذه العمليات.

أما من الناحية السياسية، فهذه الجماعات غير معنية بتطور العملية السياسية او بمشاركة هذا القطاع او تهميش ذاك، فقد هددت الانتخابات ثم عادت وهاجمت من ادرك لاحقاً جدوى وضرورة المشاركة، فضلاً عن استمرار ضربها المنظم لمؤسسات الدولة ومفاصلها وبناها ومصدر شريان حياتها، والاستمرار على الجانب الاخر بتمزيق النسيج المجتمعي عبر احداث فتنة طائفية والدفع باتجاه الحرب الاهلية، وأخيرا واظبت على منع تأهيل العراق للاسرة الدولية بقتل الدبلوماسيين الوافدين، بذريعة تصفية حسابات عمرها نصف قرن مع دولهم، كل تلك مؤشرات على وجود مشروع خاص، لن يقوم الا على انقاض الدولة الحالية، وان لم تكن المؤشرات السابقة كافية، فهاكم مثال جماعة انصار الاسلام المرتبطة بالقاعدة، والتي تمثل عينة واضحة على هذا التوجه، اذ هي تقوم بالعمليات الانتحارية في كردستان العراق والمدن المتاخمة له، فهم كأكراد يفترض أنهم يدركون بأن الكرد، ولأول مرة في تاريخهم، يواتيهم الظرف الدولي والإقليمي والداخلي لنيل حقوقهم، لذا فان المصلحة تستلزم حفظ الاوضاع، الا ان العمليات المسلحة لهذه الجماعة تدلل على ان اجندتهم غير مرتبطة بقومية او اماني وطنية او مصالح سياسية، وإنما بمشروعها الخاص في رؤية العالم وفي المستقبل الذي ينشدون اقامته.

لهذا يصبح استثمار المتغيرات الحالية واللاحقة غير مجد مع الجماعات المسلحة ذات الثقل في الممارسات الإرهابية، ليصبح الضروري هو التوجه الى البيئة الحاضنة لهذه الجماعات، اي الوسط السكاني والجغرافي الذي يوجدون ويتحركون فيه، خاصة وأنه لا توجد في العراق كهوف تورا بورا ولا حتى ان التمرد موجود في اماكن طبيعية تساعد على الاختفاء، كأهوار الجنوب او جبال الشمال، ولأنه موجود في جغرافية سهلية لا توفر ظروف الاختفاء، حيث ان الذي يوفر الاختفاء هو الوجود البشري. ولهذا يصبح الاجدى توظيف المتغيرات لاستدراجها لخيار السلم والتهدئة والإصرار على مبدأ المشاركة، ليس لأنه التوجه الامثل، وليس لانه بالضبط ما كانت تشكو من انعدامه القوى الحاكمة الآن، بل ببساطة لأنك لا تستطيع ان تفرض الأمن لوحدك ولو استطعت فافعل.

وعلى الدولة ايضاً الانفتاح على الفاعلين في المناطق المغيبة، لأن التهميش والإقصاء هما اللذان ولدا لديهم افكاراً ومواقف متطرفة، فالحوار ينتهي غالباً بانتزاع مواقف جديدة.