محطم الفلاسفة

TT

كارل بوبر احد اهم المجددين في الفلسفة الاجتماعية والسياسية للقرن الماضي، وكتابه «بؤس الايديولوجيا» على صغر حجمه، من الكتب المعدودة التي اثرت تأثيرا كبيرا في الفكر السياسي للقرن العشرين.

وذلك الكتاب المعقد ـ الى حد ما ـ نقد لمبدأ الانماط في التطور التاريخي، فكارل بوبر ضد التاريخانية التي كان اصحابها يعتقدون بامكانية التنبؤ التاريخي من خلال معالجة العلوم الاجتماعية، وتقريب اساليب العلوم الانسانية من الاسلوب المعروف للعلم التجريبي.

ولان الناقد الذكي يجب ان يعلي من شأن خصومه قبل ان ينقض عليهم ليهدم نظرياتهم، قام بوبر بعرض المذهب التاريخاني «Historicism» عرضا جميلا، بل و أوجد له حججا لم يفكر بها معتنقو ذلك المذهب ودارسوه. ومن هنا ظهر حجم عمله وقيمته، فالناقد الذي يقوم بالتتفيه من اول جملة يتفه نفسه قبل الآخرين.

ولم يخف ذلك الفيلسوف الكبير انه رفع من شأن التاريخانية.. ليعطي قيمة للجهد الذي بذله في تحطيمها، وها هو يقول منذ مقدمة ذلك الكتاب الهام «... ولكني حاولت جاهدا ان ابرز المذهب التاريخاني في صورة قوية حتى تكون لنقدي له بعد ذلك جدواه، فحاولت ان اعرض المذهب في صورة فلسفة احكمت منها الاجزاء، ولم اتردد في صياغة حجج تؤيدها لا اعلم ان اصحاب المذهب انفسهم قد جاءوا بها ابدا، وعسى ان اكون وفقت على هذا النحو الى انشاء موقع جدير بالهجوم».

وهذا الكتاب الذي نقله الى العربية الدكتور عبد الحميد صبره بترجمة دقيقة وجميلة، قربت «عوائصه» الى الاذهان، كان مجرد مقالة صغيرة بعنوان «عقم التاريخانية» قرأها الفيلسوف في منزل احد اصدقائه في بروكسل عام 1936، ثم نقحها واضاف إليها الى ان استوت كتابا جديرا بالاعجاب، نشر اولا على حلقات في مجلة «ايكونو ميكا«، وبدأ المشتغلون بالفكر الاجتماعي والسياسي يحسون بخطورة الآراء الواردة فيه منذ منتصف القرن الماضي. اما عربيا فلم نعرفه إلا في التسعينات المنصرمة أي كالعادة بتأخير قرابة نصف قرن، وهو العمر التقليدي للرحلة الفكرية من المنبع للمصب.

وخطورة نقض بوبر للتاريخانية تنبع من كثرة الفلاسفة الذين قالوا بوجود قوانين يسير التاريخ استنادا اليها، فالحتمية التاريخية وقوانينها لم ترد عند ماركس فحسب انما قال بها بشكل او بآخر كارل مانهايم وارنولد توينبي وهيجل واوجست كونت وشبنجلر وآخرون.

وفي الفلسفة القديمة ايضا زعم فلاسفة كبار امكانية التكهن بالمستقبل ومنهم هيراقليطس وافلاطون، وهذا يعني ان الفلسفة التاريخانية كانت ضاربة الجذور قبل ان يأتي بوبر ويميز بين «التنبؤ» و«النبوءة»، ويقول سواء كان المتنبئ بشرا ام حاسوبا فإنه لا يستطيع بالطرق العلمية ان يتنبأ بما سيصل إليه التطور من نتائج مستقبلية، فكل المحاولات التي يبذلها المتنبئون لا يمكن ان تبلغ نتيجتها منطقيا إلا بعد حدوث تلك النتيجة.

وحجة بوبر القوية في ذلك الزعم ان التاريخ الانساني يتأثر في مسيرته بنمو المعرفة البشرية، والطرق العقلية لا تستطيع ان تتنبأ بكيفية نمو معارفنا العلمية والنتيجة التلقائية لهذه الفرضية تلغي امكانية قيام تاريخ نظري، أي علم تاريخي يوازي علم الطبيعة النظري، وحين تغيب النظرية العلمية في التطور التاريخي تصبح كل التنبؤات التاريخية هلوسات وهباء.

لقد كان كعب اخيل في النظرية الماركسية عدم قدرة ماركس على التكهن بتراجع دور القوة العضلية لصالح الآلة، وكل نظرية تاريخانية لها نقطة ضعف مماثلة، فالمستقبل كتاب مفتوح على كل الاحتمالات، وكل من يزعم انه يحيط علما باحتمالاته يخرج نفسه من اطار نظريات العلوم، ويدخل في اطار السحر والتنجيم، وتلك قصة اخرى لا تدخل في فضاء المناطقة، والفلاسفة.