واشنطن استقبلت شارون بحفاوة.. فركز على تقوية العلاقة الاستراتيجية الخاصة بين البلدين

TT

اللقاءات التي كان اجراها وزير الخارجية الاميركي كولن باول مع الفلسطينيين والاسرائيليين خلال زيارته للمنطقة، لم تساعد كثيرا في منحه افكارا تدرسها الادارة الاميركية الجديدة للسلام العربي ـ الاسرائيلي. فقد لمح الفلسطينيون امامه انهم حققوا في لقاء طابا مع الاسرائيليين الكثير، رغم عدم حضور الولايات المتحدة، وطلبوا منه، من جهة اخرى، ان يبقى رئيس جهاز المخابرات الاميركية (سي. آي. ايه) جورج تنيت مشاركا باستمرار في اللقاءات الامنية الفلسطينية ـ الاسرائيلية.

المسؤولون الاميركيون لم ينزعجوا من المواقف التي ابداها الفلسطينيون والاسرائيليون امام باول. فهم يريدون ان لا يبتعدوا عن منطقة الشرق الاوسط بالتأكيد، لكنهم لا يريدون التورط في عملية سلام يزيد المشاركون فيها من تعقيداتها. لكن المخضرمين من السياسيين الاميركيين رأوا انه لن يمضي وقت طويل قبل ان تواجه ادارة الرئيس جورج دبليو بوش ازمة، «فحطام القطار يتجه صوبنا، لكن الآن لا يمكننا عمل شيء» كما قال احدهم. المسؤولون في الادارة الجديدة لا يتفقون مع هذا التخمين، وان كان بعضهم حث باول خلال زيارته على اقناع الاسرائيليين بالربط ما بين الالتزام الفلسطيني، بالتخفيف من حدة العنف، ووعد اسرائيلي باستئناف المفاوضات. الذين اقترحوا هذا الامر يتخوفون من انهيار السلطة الفلسطينية، فتحل بالتالي حركة فتح المقاتلة مكانها برئاسة زعيمها ياسر عرفات او من دونه.

هذه الخيبة وهذا التخوف لا يخفيان حقيقة اساسية وهي ان المحاولات المكثفة غير الناجحة التي قام بها الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون في الاشهر الاخيرة من ولايته، تركت قلة من المسؤولين الاميركيين مستعدة كي تدعم تدخلا اميركيا لافتا في عملية السلام. يضاف الى ذلك ان رفض ياسر عرفات العرض الاخير الذي قدمه له رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ايهود باراك ترك باول وآخرين في الادارة الجديدة مترددين في الاقدام على شيء لشكهم بأن الزعيم الفلسطيني إما غير راغب او غير قادر على ان يكون شريكا حاسما في المفاوضات. وحسب مصادر اميركية مسؤولة، فان ممثلي باراك في الجلسات الاخيرة في كامب ديفيد كانوا يقدمون 95% من الضفة الغربية وكل قطاع غزة، و2% من ارض اسرائيل، وكان باراك ـ كما قالوا ـ مستعدا للتنازل عن كل القدس الشرقية التي احتلت عام 1967، وانه طلب في المدينة القديمة الابقاء على السيطرة على الحي اليهودي وممر يربط بينه وبين القدس الغربية. ويضيف هؤلاء ان ادعاءات الفلسطينيين بتحقيق النجاح في طابا، بعد ان رفضوا اقتراحات باراك، لا تنطبق على الواقع، فالمفاوضون لم يحققوا اي تقدم في القضايا المعقدة، ومنها السيطرة على الحرم الشريف (جبل المعبد) او عودة اللاجئين الفلسطينيين. ويبدو ان ما استخلصته ادارة بوش من هذه التفاصيل هو التالي، حسب مصدر مقرّب منها: وقف محاولات التودد لعرفات، وعدم توجيه دعوات اليه لزيارة البيت الابيض ولا معاملة خاصة له.

وسط هذا الجو وصل ارييل شارون رئيس وزراء اسرائيل الى واشنطن. وكان بذلك اول مسؤول من الشرق الاوسط يستقبله الرئيس الاميركي الجديد، لكن بوش، تدفعه الرغبة الى ترجيح كفة الاعتدال في القمة العربية التي ستعقد في 27 و28 من الشهر الجاري، سيستقبل الرئيس المصري حسني مبارك في الثاني من الشهر المقبل والعاهل الاردني الملك عبد الله في العاشر منه.

بعد غداء عمل ولقاء موسع في المكتب البيضاوي قال الرئيس الاميركي ان الولايات المتحدة «ستعمل جاهدة لوضع اسس السلام (...) لكنها لن تفرضه بالقوة».

وحسب مصدر صحفي، يبدو ان الرئيس بوش اصغى بتعاطف الى شارون الذي طلب دعم الولايات المتحدة في الضغط على ياسر عرفات لانهاء «العنف» ضد الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة. وفي المؤتمر الصحفي، ردد شارون الهدف الذي انتخب لاجله:

«الشيء الاول والاهم هو توفير الامن للمواطنين الاسرائيليين، وعندما نحقق الامن سوف نبدأ مفاوضاتنا للتوصل الى اتفاق سلام».

وذُكِر ان شارون طلب من المسؤولين الاميركيين الذين التقاهم ان لا توجه واشنطن دعوة في المستقبل الى عرفات ـ الذي كان زائرا دائما في عهد الرئيس كلينتون ـ. الناطق باسم الرئيس بوش لم ينف او يؤكد ما اذا كان الزعيم الفلسطيني شخصا غير مرحب به من قبل ادارة بوش لكنه قال: تجمعنا علاقة خاصة مع اسرائيل والرئيس كان مرتاحا للقائه مع رئيس الوزراء».

وبوش نفسه عندما سئل عما اذا كان سيوجه دعوة لعرفات اجاب: «حتى الآن لم اضع خططا بالنسبة الى الذين سألتقيهم».

وكان شارون استكشف امكانية الدعم العسكري الاميركي الاضافي لاسرائيل الذي يُقدر بالمليارات والذي كان الرئيس كلينتون وعد به قبل مغادرته البيت الابيض من دون ان يربطه بتحقيق السلام مع الفلسطينيين. الذي لفت الانظار ان شارون استقبل بحفاوة في واشنطن لا تتناسب مع رجل له ماض مثير، خصوصا ان الرئيس بوش ذكر كيف ان شارون اخذه في جولة في اسرائيل وفوق الجولان، قبل ان يعرف اي منهما ما اذا كان سيفوز في الانتخابات، وأقر بان شارون ادار حملته الانتخابية افضل مما ادارها هو! المراقبون اتفقوا على ان الهدف الرئيسي من اللقاء كان اقامة علاقة تفاهم بين الرجلين، خصوصا ان الرئيس بوش اكد مرارا انه لا يرغب في ان يلاحق تفاصيل عملية السلام كما فعل سلفه.

من جهته، لا بد ان شارون لاحظ البرودة في العلاقات ما بين الادارة الاميركية الجديدة والزعيم الفلسطيني عرفات، ولهذا كان يتوقع تعاطفا مع طرحه بأنه غير قادر على احياء محادثات السلام مع الفلسطينيين قبل ان يقدم عرفات على تحجيم الانتفاضة! في الوقت نفسه، كان شارون مدركا للانتقادات التي توجهها اميركا لاسرائيل، فواشنطن وصفت القوة التي تلجأ اليها اسرائيل لمواجهة الانتفاضة بالمفرطة، وان الاميركيين متخوفون من ان استمرار الحصار الاسرائيلي للمدن الفلسطينية سيزيد من الشعور الفلسطيني باليأس ومن الضائقة الاقتصادية.

لهذا لم يقل شارون انه لن يستأنف المفاوضات بل ربط ذلك باستعداد عرفات لوقف «العنف» كما قال، لكنه رفض توجهات واقتراحات واسلوب سلفه باراك واقترح سلسلة من الاتفاقات الجزئية لانهاء الصراع بدل الحل النهائي الواحد. وكان المعلق العسكري الاسرائيلي المعروف زئيف شيف كتب بأن شارون مستعد حتى لتفكيك بعض المستوطنات في غزة كمحاولة اقناع لعرفات لقبول توجهه هذا (راجع «الشرق الأوسط» عدد يوم الاثنين 19 الجاري). وكان شارون ابلغ باول انه اذا ما اقدم عرفات على خطوة او اثنتين ملموستين لوقف العنف فان اسرائيل سترد عليه بالمقابل، وعرض تفكيره بالنسبة الى التعايش الفلسطيني الاسرائيلي مؤكدا ان الحل النهائي الذي وضع على الطاولة في زمن كلينتون لم يعد قائما، وعلى الطرفين الآن التركيز على خطوات صغيرة ملموسة.

ورغم ان شارون استعرض حرس الشرف لدى وصوله الى وزارة الدفاع واطلق الجنود 21 طلقة له، كان همه ان يظهر انه سياسي براغماتي وان اسرائيل والولايات المتحدة لديهما مصالح مشتركة في الشرق الاوسط وابرزها تحقيق السلام العربي ـ الاسرائيلي! واحتواء الرئيس العراقي صدام حسين.

وهو قبل سفره التزم ضبط النفس تجاه العمليات الفلسطينية كي لا يؤثر اي رد فعل عسكري ضخم على حملته الديبلوماسية، ثم انه طلب من وزير خارجيته شيمون بيريز الاتصال بالرئيس مبارك وبالملك عبد الله الثاني وبرئيس السلطة الفلسطينية عرفات، وبالفعل تحدث بيريز مع كل من مبارك وعبد الله وطلب منهما ان يوضحا لعرفات ضرورة وقف «العنف الفلسطيني»، وقال بيريز للزعيمين العربيين، انه يحدثهما باسم شارون وان اسرائيل لا تريد اغراق المنطقة كلها في حرب.

لكن هذا لا يعني ان اسرائيل ليست قلقة من الاستراتيجية الجديدة لادارة بوش تجاه الشرق الاوسط. ففريق بوش ملتزم بأن يعطي وزنا لأبرز حلفاء واشنطن العرب، مصر والاردن والمملكة العربية السعودية، فالادارة الاميركية في حاجة الى التنسيق مع هذه الدول، على الاقل في محاولاتها لاحتواء الرئيس العراقي، لكن هذه الدول بالمقابل طلبت من واشنطن بان تضغط اكثر على اسرائيل لوقف قمعها للانتفاضة وان تكون اكثر وضوحا والتزاما في اي مفاوضات سلام مستقبلية.

على كل، تزامنت لقاءات شارون الاميركية مع اعلان بلدية القدس انها اعطت موافقة مبدئية لبناء ثلاثة آلاف منزل اضافي في مستوطنة «هار حوماه» او بالاحرى المنطقة الفلسطينية جبل ابوغنيم.

الناطق باسم الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر رفض القول عما اذا كانت واشنطن ترى في هذا القرار (البناء على ارض محتلة عام 1967) خرقا للقرارات الدولية «لا نعتقد ان هذا يدعم السلام والاستقرار، هذا كل ما استطيع قوله في هذه اللحظة»! يبدو ان ما رغبه شارون من هذه الزيارة هو وضع البنية التحتية للتعاون المستقبلي بين اسرائيل والولايات المتحدة، وحسب ما قاله احد المقربين من شارون فان الطرفين يرغبان في الاشتراك في نظرة واحدة للشرق الاوسط، لان الادارة الاميركية الجديدة والوزارة الاسرائيلية الجديدة تواجهان الآن شرق اوسط اقل استقرارا عما كان عليه في السابق.

خلال لقاءاته اظهر شارون ان حكومته تريد الابقاء على العلاقة الخاصة بين واشنطن وتل ابيب بغض النظر عن تطورات عملية السلام. وكان شارون في الكلمة التي القاها عندما فاز في الانتخابات قال انه يرى الولايات المتحدة الشريك الاستراتيجي الاساسي لاسرائيل، وذكر خلال لقاءاته مع المسؤولين الاميركيين انه في السنوات العشر الماضية منذ نهاية حرب الخليج الثانية، برز شرق اوسط اكثر ثباتا بالمفهوم العام، فالعراق هُزم ووضع تحت مراقبة الامم المتحدة اضافة للحصار الاقتصادي المفروض عليه، لكن الاوضاع تغيرت الآن، فايران بدأت تبرز كقوة كبرى في المنطقة، وانها اوجدت مركزا جديدا للارهاب في لبنان. وعاد العراق ليبرز على الساحة العربية، ولم يأبه بالسماح لعودة مفتشي الامم المتحدة، والحصار يتفكك، لذلك اكد شارون للمسؤولين الاميركيين على ضرورة تدعيم وتقوية التحالف الاميريكي ـ الاسرائيلي من اجل مواجهة المستجدات في المنطقة! ويظهر هذا ان شارون توجه الى واشنطن ليذكرها انها في حاجة لاسرائيل في المنطقة، كحليف دائم، لكنه في الوقت نفسه حاول ان يطلب من واشنطن «تجميد» علاقتها بعرفات، وبرر ذلك بانه يحاول ايجاد سلام مع مقاييس محددة، وحسب ما قاله مصدر اميركي، فان الطرف الاسرائيلي اكد في لقاءاته، ان كل طرف يريد السلام، «انما علينا ان نصر على مقاييس محددة من التصرفات الدولية كي يصبح السلام فاعلا». وطرح الاسرائيليون امام الاميركيين انه في الاسبوع الماضي اكتشفوا ان القوة 17، الحرس الشخصي لعرفات، متورطة في التحضير لوضع سيارة مفخخة كي تنفجر في القدس! وقالوا للاميركيين ان هذا النوع من التصرفات يجب ان يتوقف بشكل نهائي.

لقد توجه شارون الى واشنطن ولديه رغبة اخرى كذلك بأن تتوقف اميركا عن معاملة اسرائيل والفلسطينيين بشكل متساو، على الاقل من ناحية استقبالها لرئيس وزراء اسرائيل الذي كان يليه تلقائيا استقبالها لعرفات، وعبر عن رفضه ان يعامل المعاملة نفسها التي يلقاها عرفات، وطالب بمعاملة مختلفة وافضل. وتسلح بذلك بما قاله كولن باول في كلمته امام مؤتمر ايباك، بأن زمن المعاملة المتوازنة ما بين اسرائيل والفلسطينيين انتهى، واصبح من الضروري الآن الحكم على كل قضية بمفردها، ولهذا زعم شارون ان الطرف الفلسطيني يمارس الارهاب في حين ان الطرف الاسرائيلي يدافع عن نفسه فقط! لهذا لم يعد هناك من مبرر للمعاملة المماثلة للطرفين.

الآن، ماذا سيفعل عرفات؟ ليست هناك ادارة اميركية جديدة فقط، بل موقف اميركي جديد. حكومة باراك قدمت نفسها على انها تريد التوصل الى حل نهائي وتوقيع اتفاقية سلام، اما حكومة شارون، وكما يبدو، فانها تطرح نفسها حكومة ادارة الازمة للتوصل الى توفير الامن للاسرائيليين، هل سيتجاهل كل التغيرات وينتظر انعقاد القمة العربية؟ ام يقرر مراجعة للخطوات الماضية التي اقدم عليها والمواقف التي تسرّع في اتخاذها.

عندما انعقد البرلمان الفلسطيني اخيرا، بعد ستة اشهر من الغياب، ضرب عرفات على الطاولة متسائلا بغضب: لماذا يترك العالم شعبه يموت! بعد ذلك جاء وفد من المجموعة الاوروبية ودرس المعاناة الفلسطينية وانتقد الحكومة الاسرائيلية، فسمحت لصيادي السمك في غزة بالصيد في منطقة بحرية محصورة، وفي واشنطن رفض شارون الاصغاء لتخفيف القيود الاقتصادية وقال انه اتخذ عدة اجراءات لتخفيف الحصار عن الفلسطينيين فكانت النتيجة عدة «عمليات ارهابية»، وابلغ الاميركيين ان عرفات وليس اسرائيل المسؤول عن اثارة القلاقل في المنطقة.

الاستمرار في السياسة نفسها لن يؤدي الى تحقيق ما يصبو اليه عرفات، لقد تغيرت الاولويات، وكان بوش واضحا جدا عندما قال انه لن يفرض السلام على احد، بمعنى انه لن يضغط على اسرائيل، فهناك العراق وهناك النفط، هناك البلقان الذي عاد يهدد بالاشتعال، وهناك الاصرار على اقامة مظلة واقية من الصواريخ تريدها واشنطن وترفضها اوروبا وموسكو وآسيا، ثم هناك الاقتصاد الاميركي الذي يمر بأزمة تكاد تصل الى الركود، فالأسهم تنهار يوما بعد يوم مع الاسواق المالية، ثم هناك اليابان بوضعها الاقتصادي المتأزم، وسط هذا كله اين يجد عرفات مكانه؟ مراجعة نقدية للذات وللسياسة المعتمدة حتى الآن ضرورية، فالعالم حتى بدون مشاكله المختلفة، لم يعد يسمع الاصوات الغاضبة او الضرب على الطاولة، كلها وسائل تجاوزها الزمن لكنه لم يتجاوز حقيقة قائمة وهي ان شعبا يموت وليس هناك من هو مستعد ليرى، لان هناك شعوبا اخرى تموت ايضا.