مشرف وسياسة المد والجزر

TT

على أثر الهجمات الإرهابية التي وقعت في لندن في 7/7، والمزاعم التي ربطت باكستان بتفجيرات شرم الشيخ، تعرض الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف للكثير من الضغوطات الدولية، لاتخاذ إجراءات تقضي على خلايا القاعدة في بلاده. وبعد تبادل الاتهامات بينه وبين بريطانيا، ورغبته في أن يُظهر لواشنطن أنه قادر على اجتثاث الإرهاب من باكستان، أصدر الأوامر الى أجهزته الأمنية، فاعتقلت 540 شخصاً من المعروفين بميولهم المتطرفة العنيفة، بينهم هاشم قدير، الذي يقال إنه متورط في قتل الصحافي الأميركي دانييل بيرل، كما أغارت على بعض المساجد والمدارس، بحثاً عما يشير الى أي علاقة مع القاعدة ومنظمات إرهابية أخرى، وفرضت حظراً على تحركات حوالي 3500 إمام، ومنعت استعمال المكبرات الصوتية للدعاية الدينية، وشددت على اتباع القوانين المتعلقة بتسجيل المؤسسات الدينية.

لكن، إذا كان ما يقلق العالم هو عودة القاعدة الى باكستان، فإن ما يقلق الجنرال مشرف هو تطور العلاقة بين واشنطن ونيودلهي، لذلك عمد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش يوم الخميس الماضي، الى الاتصال بالرئيس الباكستاني وطمأنته بأن اتفاق التعاون الدفاعي، الذي وقعته الولايات المتحدة مع الهند قبل أسابيع قليلة، لا يشّكل أي تهديد لباكستان، ولا يهدف أيضا الى إخلال ميزان القوى في جنوب آسيا. وفي اليوم نفسه قال وزير الدفاع الهندي براناب مكرجي، إن الاتفاق الدفاعي «ليس بالشيء الجديد»، ولا يعني أن الهند سوف تشارك في أي عمل أميركي عسكري في المنطقة ضد المجموعات الإرهابية. بعد هذا أعلن الجنرال مشرف، في 29 من الشهر الفائت، عن طرد كل تلاميذ المدارس الدينية الأجانب وعددهم 1400، وهؤلاء بمجرد طردهم تصبح أقامتهم غير شرعية. وللتأكيد على جدية حملة الرئيس هذه المرة، ضد المتطرفين الدينيين، قال وزير الثقافة الباكستاني الجنرال جويد أشرف قاضي، وهو رئيس سابق للاستخبارات الباكستانية، إنه سيتم إغلاق كل المدارس الدينية التي تتأخر عن التسجيل الرسمي بعد شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وأضاف أنه سيتم تطبيق منهاج مدرسي معدّل في كل البلاد مع التشديد على مادتي الرياضيات والعلوم.

قبل عمليات لندن وشرم الشيخ التي كثّفت الضغط الدولي على الرئيس مشرف، لمنع تحول باكستان الى مركز عالمي للإرهاب، كان الرئيس الأفغاني اشتكى هو الآخر بأن إسلام آباد لا تتخذ الإجراءات المشددة لمنع عناصر الطالبان من عبور الحدود، بقصد عرقلة الانتخابات التي ستجري في أفغانستان في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، وكذلك ابدت الهند قلقها من تجدد الهجمات في منطقة جامو وكشمير، وأضافت تفجيرات لندن بعداً آخر لمشاكل مشرف مع الإسلام المتطرف.

يقول مصدر غربي مطلع : إن من جرى اعتقالهم أخيراً شاركوا في منظمات متطرفة قبل عمليات 11 سبتمبر في واشنطن ونيويورك، عندما كانت باكستان تدعم علناً طالبان في أفغانستان والمجموعات المقاتلة في كشمير، ويضيف انه حسب التصريحات الباكستانية الرسمية السابقة، فإن هذه المنظمات من المفترض أنها أُغلقت رسمياً قبل ثلاث سنوات، لكن كما يبدو فإن الاجراءات لم تكن مشددة وعادت هذه المنظمات تنشط تحت أسماء مختلفة.

من المستبعد أن تكون نتائج الخطوات الأخيرة مختلفة عن نتائج إجراءات سابقة أقدم عليها مشرف، وذلك لأسباب عدة، من أبرزها، أنه بعد عمليات سبتمبر اتخذ قراراً بالتخلي عن سياسة باكستان الخارجية التقليدية، ودعم واشنطن، فأثار الأمر ردة فعل الإسلاميين الى درجة ان الأحزاب الإسلامية، التي لم تفز في أي انتخابات سابقة، فازت بشكل حاسم في منطقة الحدود الشمالية ـ الغربية في أول انتخابات دعا اليها مشرف عام 2002، وكانت خاضت حملتها تحت شعار «مجلس العمل المتحد»، وفي عام 2003 وبسبب دعمه للحملة العسكرية الأميركية ضد أفغانستان، حاولت القاعدة اغتياله ثلاث مرات. وبعدما شاركت قواته في عمليات عسكرية ضد قواعد طالبان على الحدود مع أفغانستان، وقاتلت القاعدة والإرهابيين الاجانب (أي العرب)، وأدى ذلك إلى اعتقال مسؤولين كبار في القاعدة، أقدم مشرف على التوصل الى تسويات مع مجموعات محلية إسلامية بتراجعه عن تثبيت الجوانب العلمانية في القوانين، والتغاضي عن تسجيل المؤسسات الدينية، وأدى موقفه التصالحي تجاه حكومة «مجلس العمل المتحد» في منطقة الحدود الشمالية ـ الغربية الى مصادقة البرلمان على اصلاحات دستورية من دون أي معارضة.

لقد قوّى مشرف وضعه بالسماح للمنظمات الإسلامية بالتركيز على برامج محلية دينية واجتماعية، شرط ان يكفوّا عن النشاطات الإرهابية. وإذا كانت العلاقة ما بين المدارس الدينية ومفجري لندن ستعيد الشكوك في اسس التسويات، التي كان توصل اليها، غير أن الرئيس مشرف لا يريد أن يقود هجوما مباشراً على المؤسسات الإسلامية، خصوصاً ان كل المساجد والمدارس التي تعرضت لغارات أخيراً، لا تقع في منطقة الحدود الشمالية ـ الغربية، بل إنها في لاهور، وإسلام آباد وكراتشي، حيث الاسلام يتنافس مع الايديولوجيات العلمانية، وحيث تحظى حكومته بدعم قوي. يضاف الى ذلك تصاعد العنف المذهبي وبالذات ما بين السنّة والشيعة، ثم ان أي انقضاض قوي للحكومة ضد المدارس الدينية، سيوّحد كل المجموعات الإسلامية ضد عدو مشترك ويُضعف بالتالي القوى العلمانية.

ربما لم يكن الرئيس الباكستاني يرغب في أن يواجه مشكلة القاعدة في بلاده في هذا الوقت بالذات، لأنها ستكشف امراً آخر بنفس الخطورة، وهو علاقته بطالبان، إذ لم يعد سراً في باكستان أن كل قيادة طالبان العسكرية تعيش وتتحرك من مدينة «كويتا» عاصمة إقليم بلوشستان، وتدعّي مصادر الحكومة الأفغانية، أن قادة طالبان يعيشون في تجمعات تابعة للجيش الباكستاني في مكان يدعى (تشوني) في كويتا، وهو قاعدة عسكرية ومركز تدريب للجيش الباكستاني، وان قادة طالبان العسكريين يتنقلون داخل باكستان بحماية رجال الاستخبارات الباكستانية.

ويقول مرجع باكستاني مطلع، إن وراء استمرار الرعاية الباكستانية لطالبان يكمن الخوف من الهند التي اندفعت، بعد سقوط طالبان، الى أفغانستان بعدد من المشاريع الضخمة، وإذا كان هذا الامر لا يشكل أي خطر بنظر الكثيرين، إلا أن النخبة الحاكمة في باكستان، ترى مؤامرة وراء أي تحرك هندي، ثم ان وجود الهند على الحدود الغربية، يزيد من هواجس الباكستانيين، وجاء الاتفاق العسكري الأخير ما بين الهند والولايات المتحدة، ليزيد من مخاوف مشرف الذي لا بد ان يتراجع عن كل تعهداته بمحاربة القاعدة او طالبان. ولن تكون هذه المرة الأولى، إذ بعد الانتخابات الرئاسية في أفغانستان توصلت واشنطن الى اتفاق ما بين كابول وإسلام آباد، تُسلم بموجبه باكستان قادة طالبان الى كابول، التي تصدر بحقهم عفواً وتعطيهم مراكز في الدولة إذا تخلوا علناً عن الإرهاب، غير أن باكستان تراجعت في اللحظة الأخيرة، لأنها رفضت استبدال النفوذ الكامل على أفغانستان بنفوذ جزئي.

ويلفت المصدر الباكستاني نظري الى أن مناورات مشرف ليست حديثة العهد، فهو بعد يومين من عمليات11 سبتمبر، برر في خطاب له ألقاه باللغة الانكليزية قراره في الوقوف الى جانب واشنطن «ضد الجهاديين»، لكنه في 19ايلول من العام نفسه أي بعد ستة أيام، عاد والقى خطاباً باللغة الاوردية، اللغة الباكستانية الوطنية قال فيه، إنه سيبذل أقصى ما يستطيع كي لا تتضرر طالبان من «الحرب على الإرهاب»!

منذ وصوله الى الحكم، والجنرال مشرف يمارس عمليات المد والجزر، يتقدم هنا ويتراجع هناك، وكان يعرف حاجة الغرب لمواقفه، لكن مع تكاثر عمليات القاعدة مؤخراً والضغط الاوروبي على واشنطن للعودة والتركيز على الحرب ضد الإرهاب، فإن واشنطن تشعر ان الوقت لم يعد يقبل المناورات الباكستانية، وأن عليها ان تجدد حملتها على القاعدة، وافق مشرف او اعترض. وهي لا بد ستخّيره بالنسبة الى الطالبان، أن يقرر أين تقف باكستان، لأن انهيار الوضع في أفغانستان سيؤدي الى كارثة، لن يستطيع العالم تحملها.