حصار بيروت.. عاشه الملك فهد.. كما عاشته القيادة الفلسطينية

TT

من الامور التي لم يتم الاعلان عنها حتى الآن رغم مرور كل هذه الاعوام الطويلة هو الدور الذي لعبه الملك فهد، رحمه الله وغفر له، خلال حصار بيروت، الذي استمر نحو ثلاثة شهور.... في ذلك الوقت كنت اعمل في صحيفة «السفير» اللبنانية وكنت دائم التردد، وبخاصة في الساعات المسائية، على مواقع وغرف العمليات السرية التي كان يتنقل بينهما الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات الذي كان يضطر في الكثير من الاحيان الى استخدام الدراجات الهوائية في تنقلاته والذي كان موضع مطاردة وملاحقة من قبل طوابير من الجواسيس والمخبرين ومن قبل الطائرات الاسرائيلية التي بقيت تعمل ليلا ونهارا على مدى كل هذه الفترة.

في احدى ليالي الحصار الطويل، وكانت بيروت تهتز تحت القصف الاسرائيلي الشديد، من الجو والبر والبحر، كان ابو عمار، رحمه الله، يرابط في قبو ارضي الى جانب احدى ثكنات «القوات 16» اللبنانية على كورنيش المزرعة وكان الشعور السائد بالنسبة اليه وبالنسبة لبعض القادة العسكريين الفلسطينيين الذين يتحلقون حوله ان القوات الاسرائيلية الغازية شددت ضغطها على بيروت وانها تتقدم على محورين، الاول من جهة البحر عند النهاية الغربية لـ «كورنيش المزرعة» هذا والثاني من جهة المتحف عند النهاية الشرقية لهذا الشارع.

كانت المعلومات تشير الى ان القوات الاسرائيلية تنوي قطع بيروت الى نصفين وان هدف الاسرائيليين هو القاء القبض على ياسر عرفات وكبار القادة الفلسطينيين ومن بينهم خليل الوزير (ابو جهاد) وصلاح خلف (ابو اياد) ونقلهم بالطائرات المروحية في شباك الى تل ابيب لتجرى محاكمتهم كارهابيين ومجرمي حرب وعلى طريقة محاكمة النازي ايخمان الذي كان خطف من احدى دول اميركا اللاتينية ونقل الى اسرائيل وحوكم فيها وجرى اعدامه.

في تلك الليلة الحالكة السواد، الصعبة والقاسية، اتصل ياسر عرفات بالملك فهد اكثر من عشرين مرة وقد بقيت هذه الاتصالات حتى بزوغ شمس اليوم التالي ولأننا كنا نتابع ما كان يقوله ابو عمار بدقة فقد عرفنا ان العاهل السعودي الذي بقي على الخط الآخر من الهاتف طوال تلك الليلة كان يجري اتصالات مستمرة ومتواصلة مع كل قادة الدول الكبرى ومع الامم المتحدة بهدف ايقاف الهجوم الكاسح الذي كانت تشنه القوات الاسرائيلية.

والحقيقة ان الملك فهد، رحمه الله، كان يعيش الحصار نفسه الذي فرضته القوات الاسرائيلية المجتاحة الغازية على عرفات والقيادة الفلسطينية في بيروت وكان يتابع تطورات ذلك الغزو وذلك الاجتياح لحظة بلحظة، في الليل والنهار، ولطالما كنا نسمع ابو عمار وهو يصرخ بأعلى صوته عندما كان يشتد القصف ويتأزم الموقف العسكري ويقول لمساعديه: «اطلبو لي الملك فهد بسرعة... اطلبوه بسرعة».

في تلك الايام الحاسمة والتاريخية والقاسية والصعبة كانت بعض العواصم العربية تستمتع بمشاهدة مباريات كرة القدم الدولية وكان بعض القادة والزعماء العرب ينهمكون في التخطيط والعمل لتقاسم التركة الفلسطينية بينما كان آخرون يكتفون باصدار البيانات والتصريحات التي تطالب الفلسطينيين بالقتال حتى الانتحار والموت... وآخرون كانوا يشككون بهم ويقولون ان هذا الغزو من اوله الى آخره مجرد مسرحية محبوكة بهدف بيع قضية فلسطين والتخلص منها.

لقد كان ابو عمار حتى عندما يتوقف القصف وتخف قليلا وطأة ضغط القوات الاسرائيلية لا يتوقف عن اصدار الاوامر لمساعديه: «اطلبو لي الملك فهد»، وكان الحديث دائما يدور في مثل هذه الحالات عن الوساطة التي كان يقوم بها المبعوث الاميركي اللبناني الاصل فيليب حبيب والتي افلحت بمساهمة سعودية فاعلة في اخراج القوات الفلسطينية من بيروت بأسلحتها وهي مرفوعة الرأس وحمت قيادات منظمة التحرير من المخطط الاسرائيلي الذي كان يستهدف اصطيادها ونقلها بالشباك الى تل ابيب لمحاكمة رموزها هناك كمجرمي حرب وقتلة وارهابيين.

كان ابو عمار يردد دائما خلال كل ايام الحصار، التي كان الملك فهد يعيشها على الخط الآخر من الهاتف،: «الم اقل لكم ان فاس ستتحول الى فأسٍ في رؤوسنا اذا لم نوافق عليها.. الم اقل لكم ان (ولي العهد السعودي) قد بادر الى المبادرة التي تقدم بها الى القمة العربية التي انعقدت في هذه المدينة المغربية التاريخية ليجنب المقاومة وفلسطين والقضية الفلسطينية هذا المأزق الخطير الذي نواجهه الآن»؟!

ولعل ما يجب قوله الآن، بعد ان انتقل الملك فهد الى جوار ربه واصبح في ذمة العلي القدير، ان المفاوضات مع المبعوث الاميركي فيليب حبيب كانت في جانب كبير منها مفاوضات سعودية ـ اميركية وان هذا الراحل الكبير الذي افتقده شعبه وافتقدته القضية الفلسطينية، وان لم تفقد ولن تفقد الدور السعودي، هو الذي وقف خلف مبادرة الرئيس الاميركي الاسبق رونالد ريغان التي اطلقها بينما كان ياسر عرفات يرحل عن بيروت في سفينة ايطالية تحرسها البوارج الاميركية واليونانية والفرنسية وتراقبها عن بعد البوارج السوفياتية.

لقد انتقل ياسر عرفات من بيروت الى العاصمة اليونانية اثينا ومن اثينا انتقل الى تونس ومن تونس انتقل الى «فاس» المغربية حيث انعقدت في نحو منتصف سبتمبر (ايلول) عام 82 قمتها العربية الثانية.. ولأنني رافقت الزعيم الفلسطيني على مدى مراحل تلك الرحلة التاريخية فإنه عليّ ان أؤكد ان الملك فهد كان على رأس القادة العرب الذين كانوا في استقبال (ابو عمار) في مطار هذه المدينة المغربية وانه لعب الدور الرئيسي في بلورة واقرار مبادرته القديمة الجديدة من قبل تلك القمة. ثم.. وان الامانة تقضي ان تقال الحقائق المتعلقة بهذه المبادرة الآن واولى هذه الحقائق ان مواقف بعض الدول العربية قد تضافرت مع الرفض الاسرائيلي فانسدت الطريق امام مبادرة الملك فهد التي جاءت مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز، التي حملت اسمه عندما كان وليا للعهد والتي تبنتها قمة بيروت العربية، لتكملها ولتؤكد ان القضية الفلسطينية كانت وما زالت وستبقى قضية سعودية.