رفع المُلك إلى مستوى الخدمة

TT

مشهد الوداع في الرياض، عصر الثلاثاء، كان أمثولة جديدة، مكمّلة لسيرة حياة راحل عظيم. وقد بدت مراسم الدفن تتويجاً حقيقياً لملك.

في مقبرة «العود»، حيث أكفانُ الرمال والكثبان توحِّد البشر، ووري «الملكُ الخادم».

آية الرجل انه رفع المُلك الى مستوى الخدمة.

في الانجيل قولٌ للمسيح، عيسى بن مريم: «ليكن كبيركم خادماً لكم». وفي طقوس بداية الصوم، مسحُ الجباه بالرماد، وتذكير للانسان بأنه «تراب والى التراب يعود».

خفوتُ الصلاة على الملك، وصداها المدوّي، في جو المهابة، والرهبة الخاشعة، أظهرت وجهاً للإسلام رضيّاً. فالانسان في العاجلة، مقيمٌ على سَفَر، ولا يدوم غير وجه ربّك، «ولو شاء لجعل الناس أمّة واحدة».

أدرك فهد بن عبد العزيز ان الملك ليس صك ملكية، بل عقد خدمة، وان الحكم مسؤولية لا جاه; فالكِبَرُ غيرُ الكبرياء.

الحلم موروث بني عبد العزيز، ارومةِ الملوك الفرسان. «البيتُ» أَمانتهم، وأمنُ الحجيجِ عهدتهم. أعطاهم مقسِّمُ الارزاق فلم يستأثروا، ولا بخلوا. سخوا على قضايا الأمّةِ حقّاً، قَسَطوا وعدلوا، اغاثوا وانجدوا، فلم يقهروا يتيماً ولا نهروا سائلاً، وبنعمة ربهم ما برحوا يحدِّثون!

اليوم، نذكر فهد بن عبد العزيز بالخير، لقد أحسن المُلْكَ والخدمة، وكان صاحب هوى لبناني. تحسّس معاناة اهلنا، وشارك الشعوب الشقيقة همومها، وأدّى فريضة دينه لقومِه وأُمّتِه. أوتي رؤيةً مستقبليّة، فقاد المملكة الى المعاصرة، بتؤدة وثقة، متبصِّراً فلا تصادم، حازماً فلا استهانة.

حفظ مودّة لبنان، رعى المبادرات لخلاصه، حضن مؤتمر الطائف، وضمن وثيقة الوفاق، واكب محاولات العودة الى الوحدة بالمصالحة، وتوطيد السيادة، يقيناً ان لبنان الحقيقي، المتعدد الثقافة، الحر، المستقل، ضرورة عربية واسلامية، أكثر منه مطلباً مسيحياً، لأنه تأكيد لرسالة التعايش بين ابناء ابرهيم، في الشرق، ونقض للعنصرية نظاماً.

ان ملامح المأثرة التي صاغها خادم الحرمين الشريفين، هي من ثوابت نهج عبد العزيز وبنيه، وقد شارك فيها مدى ثلاثٍ وعشرين سنة، ولياً للعهد، وتولاها عقداً كاملاً، الملك الخادم الجديد، عبد الله، حفظه الله، ليحمل مسؤولية المملكة العربية السعودية الاستثنائية، الرباعية الابعاد:

* وطنياً: بالنسبة لتحقيق التقدّم العلمي والعمراني والاجتماعي، في خطّ التطوّر السياسي المتوازن، نحو الديموقراطية، «بيت الشورى».

* إسلامياً: بما هي «القبلة»، والوجه الحقيقي للاسلام، بسماحه وانفتاحه.

* عربياً: برفد الاشقاء عوناً وترشيدا.

* دولياً: بتوظيف إمكانات المملكة، وتأثيرها المباشر في الاقتصاد العالمي لنسج علاقات دولية متكافئة، وتوطيد السلام.

لقد أثبت الملك فهد صحة الرؤية، وحسن التصرّف، وترك ارثاً محموداً، مشتركاً مع الملك عبد الله الذي يكمل، مع ولي عهده الامير سلطان، محاطاً بإخوانه، وبيعة شعبه، مسيرة المملكة نحو المستقبل، شريكاً كاملاً في الحضارة الانسانية، وفتوحات العلم، عشيّة عصر الدهشة وتوثيق الاتصال، بين القرية الكونية التي اسمها الارض، وعوالم المستحيل، في مجرات لم تكتشف بعد.

* وزير ونائب لبناني سابق