رحيل الملك فهد: الإرث التليد والمؤسسات العصرية

TT

رحيل الملك فهد بن عبد العزيز، رحيل مؤلم وموجع. فالموت حق، لكنه خيار من اختار، تاركاً عباده على الأرض تحت عباءة الصبر، والسلوى بذكرى الطيبين الذين تركوا بصماتهم في مسيرة أوطانهم، وفي رسم سياسات الاستقرار في منطقة تعج بعوامل الصراع الآتية من خارجها قبل أن تكون نابعة من داخلها.

ورحيل الملك فهد بن عبد العزيز يندرج في هذا السياق. فقد انتقل الى ديار الحق تاركاً وراءه إرثا كبيراً، ساهم في بنائه وإدخاله الى المجتمع العربي السعودي، الذي انتقل من مجتمع في طور اكتساب الحداثة بمعناها الواسع الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والمعرفي الثقافي، الى مجتمع عصري متميز، ودولة قائمة على أسس متينة من الهياكل المؤسساتية في مختلف أوجه ومناحي الحياة العامة.

في الوقت الذي نجح فيه وفق توجيهاته في الأخذ بناصية الأمور في اشتقاق السياسات الصائبة للمملكة العربية السعودية، طوال الحقب الثلاث الماضية، المليئة بالتفاعلات والتداخلات والتحولات الدراماتيكية التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط. فاستطاعت السعودية أن تعبر موجات الرياح العاتية بنجاح جيد، من دون أن تصاب بفقدان التوازن السياسي. فبنت سياستها على أسس تضمن استمرار المملكة كعضو فاعل ومؤثر في الأسرة العالمية، ومنسجمة مع إرادة المجتمع الدولي.

وعلى هذا الأساس ومن منطلق الحكمة والنظرة الثاقبة للتحولات الدولية التي اعتملت بداية العقد الأخير من القرن المنصرم، أيدت العربية السعودية بقيادة الملك الراحل، والملك الحالي عبد الله بن عبد العزيز، المشاركة العربية في مؤتمر «السلام» في مدريد عام 1991، بالرغم من الصيغ المجحفة التي لحقت بالعرب. لكنها ـ أي المملكة ـ بالمقابل ربطت كل الأمور، بما في ذلك التقدم في مسيرة السلام، بإنجاز نتائج ملموسة على المسار الفلسطيني تقترب من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، خصوصاً حقه في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وعلى هذا الأساس رفضت العربية السعودية أي حديث مباشر أو غير مباشر بشأن العلاقة مع الدولة العبرية الصهيونية من دون إحقاق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة.

إن خسارة الشعب الفلسطيني برحيل الملك فهد، خسارة كبيرة، وأليمة. فالفلسطينيون يشاطرون الشقيقة الكبرى، هذا المصاب الجلل، وقد قامت المملكة العربية السعودية تاريخياً بتقديم كل أسباب الدعم للفلسطينيين، سياسياً ومادياً وإعلاميا، وتوجت الدعم إياه في ظل الانتفاضة، حيث رعت بناء «صندوق القدس»، حتى كادت أن تكون ومعها دولة الإمارات العربية المتحدة، الدولتين العربيتين الوحيدتين في تقديم الالتزامات المادية التي قررتها القمم العربية للشعب الفلسطيني وللمؤسسات الوطنية داخل الأراضي المحتلة منذ قمة القاهرة العربية التي عقدت من أجل توفير الدعم للانتفاضة في تشرين أول (أكتوبر)2001.

وعليه فإن الإرث الخيّر للملك فهد بن عبد العزيز تحمله الآن الأيدي البيضاء، والإرادة الحكيمة للقائد العروبي الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي أدار السفينة، ونجح في إدارته لها، في لحظات عصيبة عاشتها الملكة العربية السعودية مع انتشار داء الإرهاب المستورد على النطاق المحلي والدولي، خصوصاً أن المملكة نالها نصيب وافر منه، بهدف زعزعة استقرارها وتحطيم السلم المجتمعي داخلها.

إن السعودية، بثقلها الإقليمي والاقتصادي، وبحضورها الدولي المرموق، وبمؤسساتها، ونهجها، وثوابتها، ستتابع مسيرتها، بالسياسة الحكيمة للملك عبد الله بن عبد العزيز، وبالحسابات الدقيقة التي تأخذ بعين الاعتبار المصلحة السعودية والعربية ككل، وعلى وجه الخصوص مصالح الشعب الفلسطيني في كفاحه العادل من أجل العودة والاستقلال وتقرير المصير. ومن هنا يمكن القول إن الفرصة متاحة الآن لإعادة تزخيم مبادرة السلام العربية المنبثقة عن قمة بيروت في آذار (مارس) 2002، التي صاغها وقدمها للقمة الملك عبد الله بن عبد العزيز.

* كاتب فلسطيني مقيم بدمشق