بعد الانسحاب.. المرابطون لحماس والجيش الشعبي لفتح

TT

كان من المؤكد أن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة المقرر أن يبدأ رسمياً في السابع عشر من أغسطس (آب) الجاري، ستكون له تداعياته وسيدفع بكثيرين الى استغلاله في محاولة لملء الفراغ، تماماً كما كشف عن انقسام حاد لدى الرأي العام الإسرائيلي بين مؤيد لقرار الحكومة ومعارض له، فأُصيب بعض المتشددين اليهود بأزمة دينية عميقة، لأن قراراً بشرياً انتصر حسب ما يظنون على مشيئة إلهية! لكن ظهر أن أسوأ المستغلين لهذا القرار كان وزير المالية الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أعلن يوم الأحد الماضي استقالته من الحكومة «لأنه يتمزق في داخله»، بسبب خطة الفصل التي ستعرض إسرائيل للخطر.

لقد ظل نتنياهو لأيام طويلة ينفي عزمه على الاستقالة، لذلك أسرع اليسار الإسرائيلي الى اتهامه بالابتزاز والتطلع الى منصب رئاسة الوزراء على حساب استقرار هذه الحكومة، كما أن وزراء حزب العمل ذكّروا كيف أن نتنياهو، عندما كان رئيساً للوزراء عام 1997 أعاد تقريباً كل مدينة الخليل الى السلطة الفلسطينية، بعدما كان يحارب مبدأ الأرض مقابل السلام قبل توليه رئاسة الحكومة. لا بد أن نتنياهو حسب ان إخلاء حوالي 25 مستوطنة او تجمعاً إسرائيليا من غزة، سيوفر له وراثة منصب رئيس الوزراء من دون أعباء غزة، في وقت لا يكون فيه مساهماً في عملية إخلاء المستوطنين منها.

إن ما يكشف عن نفسية نتنياهو الانتهازية، هو أنه قبل أسبوع من استقالته، اقترح تخفيض ميزانية وزارة الدفاع لعام 2006 بحوالي 500 مليون دولار، وهذه كلفة الانسحاب من غزة. وقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون خطة نتنياهو كما رفضها وزير الدفاع شاوول موفاز، لا بل قال نتنياهو، إن الانسحاب من غزة يسمح بتسريح ما لا يقّل عن فرقة مقاتلة من الجيش الإسرائيلي، ولأن «إسرائيل لم تعد معرّضة لأي خطر من العراق، كما أن القدرة العسكرية السورية ستستمر في الانهيار». واقترح تحويل هذا المبلغ لمواصلة بناء الجدار على طول الضفة الغربية، كون العمل فيه متأخراً سنتين عن موعده. لكن القيادة العسكرية الإسرائيلية رفضت اقتراحاته «لأنها تؤذي البرامج الإستراتيجية لا سيما تلك المتعلقة بمواجهة الخطر النووي الإيراني».

وبينما كان نتنياهو يقترح تخفيض الميزانية العسكرية على أساس أن الانسحاب من غزة واقع لا محالة، كانت قيادة الأركان العسكرية الإسرائيلية تحض الحكومة على شن عملية عسكرية جوية وبرية ضد معاقل المقاتلين الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية لحماس والجهاد الإسلامي في غزة، قبل إجلاء المستوطنين، غير ان وزير الدفاع موفاز، وتحت ضغط من واشنطن رفض هذه الاقتراحات، إنما قال لمساعديه، إنه يفضل الانتظار حتى تبدأ عملية الانسحاب قبل أن يقرر ما إذا كان سيأمر بتدمير أهداف فلسطينية، وقال نائبه ذيف بويم: «إنه في حال تعرضنا للنار، فإننا سنوقف الانسحاب ونقوم بعملية على مستوى عملية الدرع الواقي»، وعنى بذلك عملية إعادة احتلال الضفة الغربية، غير أن مصادر عسكرية تشكك في احتمال أن يوافق موفاز على مثل هذه العملية بسبب ردود الفعل الأميركية، ولأنه رفض أيضاً خطة قدمها قائدا القطاع الجنوبي وقطاع غزة، تقترح نشر ثلاث فرق عسكرية واقتطاع مناطق في شمال ووسط غزة بعرض سبعة كيلومترات لمنع سقوط قذائف المورتور الفلسطينية أثناء الانسحاب.

حتى الآن رفض شارون وموفاز الخيار العسكري، مفضلَين الاعتماد على الجهود الأميركية مع السلطة الفلسطينية لمنع الهجمات والتي وصلت المائة كل أسبوع. لكن المشكلة هي أن رئيس السلطة الفلسطينية

محمود عباس أبلغ الولايات المتحدة أن قوى الأمن الفلسطينية غير جاهزة لفرض القانون والنظام في غزة، وهو حذّر من أن قواته «غير» المسلحة لا تستطيع منع الهجمات ضد الإسرائيليين، وأن وضعها عكس وضع حماس والجهاد اللتين تملكان المال والسلاح، وقال مصدر فلسطيني، إن حماس ضاعفت من انتاج اسلحة مضادة للدبابات وقذائف، «ونحن لا نملك التسهيلات للإنتاج العسكري»، وأشار الى أن كل أربعة عسكريين من التابعين للسلطة يملكون سلاحاً واحداً، في حين أن حماس دربت الآلاف على استعمال الأسلحة الخفيفة، والقذائف المضادة للدبابات وعلى تكتيكات المقاومة. وقال المصدر إن حماس هيأت فرقة «المرابطون» للسيطرة على أجزاء كبيرة من غزة بعد الانسحاب، وهي مجهزة ببنادق رشاشة من نوع إم16ـ الإميركية وقذائف الـ «آر. بي، جي». وكانت الولايات المتحدة اتفقت مع الأردن ومصر على تدريب وتسليح قوات الأمن الفلسطينية، غير ان القتال الفلسطيني الداخلي عرقل التدريبات المصرية بالذات. وإستهدف ذلك القتال مسؤولين وضباطاً في غزة، مما حمل القاضي الفلسطيني هشام عبد الرزاق على وصف الوضع الفلسطيني بالمريض، بعدما اصيب أطفاله الأربعة بصاروخ أطلق على منزله.

وبالطبع كان لا بد لتنظيم القاعدة من الدخول على الخط، مدّعياً وجوداً عسكرياً في غزة عبر «كتائب الجهاد في الأرض الموعودة». وقال المصدر الفلسطيني، إن هناك احتمالا أن تكون القاعدة تبنت إحدى الميليشيات الفلسطينية، وأشار تحديداً الى «لجان المقاومة الشعبية» التي تأسست عام 2002، وهي مؤلفة من متمردين من تنظيم فتح، وتصدر بيانات شبيهة ببيانات الزرقاوي في العراق، وأضاف ان قائد هذه اللجان هو جمال ابو سمحادانه المقيم في رفح، وكانت اللجان هذه أعلنت مسؤوليتها عن الكمين الذي نُصب لقافلة سيارات تابعة للسفارة الأميركية عام 2003 في غزة، وقتل فيه ثلاثة من رجال الحرس الأميركيين.

مع اقتراب الانسحاب الإسرائيلي، ولمواجهة ميليشيا «المرابطون» التابعة لحماس، أعلنت فتح عن إنشائها «الجيش الشعبي»، الذي سيتكون من 1500 متطوع وتكون مهمته فرض القانون في غزة بعد الانسحاب.

صاحب الفكرة هو فاروق القدومي الذي أراد ان تتعاون فتح مع السلطة لمنع سيطرة حماس على غزة.

منذ انتخابه رئيساً للسلطة الفلسطينية ومحمود عباس يدرك أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة سيشكِّل التحدي الأكبر لقيادته، وكان يأمل في الأساس ان يقنع المجموعة الدولية بجعل فك الارتباط هذا جزءاً أساسياً من «خريطة الطريق»، إلا أن شارون، وبموافقة الولايات المتحدة، أصر على أن يبقى فك الارتباط خطوة إسرائيلية أحادية، حتى تقوم السلطة بإجراءات ضد مختلف الفصائل الفلسطينية المسلحة، والآن ستحدد قدرة السلطة على توفير إنسحاب هادئ، مدى الدعم الأميركي الذي سيلقاه عباس بالنسبة الى العودة الى خريطة الطريق. من دون العودة الى خريطة الطريق والتي من بين وعودها تجميد النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية والعودة الى طاولة المفاوضات، فإن عباس وقيادته سيبقيان عرضة للاتهام بان إستراتيجية الأطراف الإسلامية القائمة على المقاومة المسلحة، هي التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب وليس دعوة ابو مازن الى المفاوضات.

من المستبعد آن تُقدم حماس على عرقلة الانسحاب الإسرائيلي، إذا أخذنا بعين الاعتبار التمحيص المصري الذي يراقب كل تحركاتها، وأيضا رغبتها في طرح نفسها على أنها حركة قادرة ان تحكم. إن الخطر الأكبر يكمن في المرحلة التي ستلي الانسحاب، مع ما سيوفره من غنائم، إذ يمكن ان تنهار غزة وتصبح تحت حكم ميليشيات متقاتلة، ويتناسى هؤلاء أنه مع بطالة تصل الى 44%، وأن 60% من السكان هم دون الثأمنة عشرة من العمر، فإن أول ما يتطلع اليه فلسطينيو غزة هو وضع اقتصادي متعافٍ، مع العلم أن إسرائيل لم تسمح للفلسطينيين بإعادة فتح مطار غزة، كما أن هدفها الأساسي من فك الارتباط هو التوصل الى ترتيب إسرائيلي يكون قادراً على الاستغناء عن العمال الفلسطينيين مع عام 2006.