الربيع الديمقراطي في موريتانيا

TT

كتبت مرة في هذه الصفحة معلقا على التجربة الديمقراطية الموريتانية الناشئة، أن التحدي الأصعب الذي يواجهها يتمثل في مدى قدرتها على تمرير خيار التناوب الذي هو مدار الحكم على نجاح التحوّل الديمقراطي.

صحيح أن الإشكالية مطروحة على كافة التجارب الديمقراطية العربية المحتشمة التي أخفقت إلى حد الآن في إفراز هذا الخيار، لأسباب عديدة ليس هذا مجال ذكرها، وتكفي الإشارة إلى اثنين منها هما: منزلة المؤسسة العسكرية، وتركيبة القوى والتشكيلات الحزبية القائمة التي عادة ما تكون هشة الأثر والفاعلية في الحراك السياسي الذي يهيمن عليه «حزب السلطة» في مجتمعات تستأثر فيها الأجهزة المركزية للدولة بأساس القدرات والفرص الاقتصادية والاجتماعية.

ولقد جاء الانقلاب العسكري الأخير على الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع يوم 3 آب (أغسطس) مخرجا من أزمة احتقان سياسي حادة. لئن كانت جذورها تعود إلى الاختلالات القانونية والتنظيمية التي عانى منها المسار الديمقراطي منذ انطلاقه عام 1991، إلا أن خلفياتها القريبة ترجع إلى السنوات الخمس الأخيرة، التي شهدت جملة تحولات نوعية لعل أبرزها:

* اتجاه النظام المخلوع إلى تضييق هامش الحريات العامة المتاحة، بعد أن نجح في محاصرة وإضعاف وتقسيم أحزاب المعارضة الرئيسية. وهكذا تم حل ثلاثة من هذه الأحزاب بقرار إداري تعسفي، منها حزبان كبيران هما اتحاد القوى الديمقراطية بزعامة أحمد ولد داداه وحزب العمل من أجل التغيير بزعامة مسعود ولد بلخير، إضافة إلى حزب الطليعة البعثي. ومع أن الحزبين الأولين رجعا للساحة السياسية في حلتين جديدتين وباسمين مختلفين، إلا أن إجراء الحل كان تصعيدا خطيرا اعتبر بمثابة الضربة القاصمة لمسار ديمقراطي بدأ متعثرا.

ينضاف إلى قرار حل الأحزاب إلغاء رخص العديد من الصحف المستقلة، ومصادرة أعداد العدد الآخر، وتضييق الخناق على الإعلام الحر الناشيء الذي تميز ـ على ضحالة إمكاناته ـ بالحيوية النقدية العالية.

* رهان النظام على تحالفاته وعلاقاته الخارجية لتوطيد منظومته داخليا، مما يعني تراخي الضغوط القوية التي واجهها في مطلع التسعينات، تلك الضغوط التي كانت الخلفية الحقيقية للتحول الديمقراطي المعلن، في حقبة كان نظام ولد الطايع معزولا إقليميا ودوليا، فكانت ورقة الانفراج السياسي مدخلا لاســتعادة ثقـــة شركــائه الخـــارجيين، خصوصا الدول الغربية المانحة ومؤسسات التمويل الدولي.

من هذا المنظور كانت مبادرة ولد الطايع المثيرة لإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة مع إسرائيل، أرادها جسرا للولايات المتحدة وللوبي اليهودي العالمي النشط في المجتمع المدني الغربي وفي الهيئات المالية والدولية.

ومع أن النظام السابق دفع ثمن علاقته بإسرائيل باهظا على الصعيدين الداخلي والعربي، إلا أنه استطاع توظيفها للحصول على بعض المكاسب الاقتصادية والدبلوماسية، كما خفت عليه الضغوط الخارجية، وسمحت له بتضييق الخناق على قوى المعارضة، مما حدا بالبعض إلى القول ان المسار الديمقراطي استنفد أغراضه التي كانت تتلخص أصلا في بناء واجهة سياسية مقبولة للخروج من حالة الحصار الخارجي.

* بروز معطيات اقتصادية جديدة، ستحول البلاد من وضع الدولة الفقيرة التي تقتات على العون الدولي إلى وضع الدولة النفطية الغنية ذات الاقتصاد الريعي، مما من شأنه توطيد الإمكانيات المتاحة لدى السلطة القائمة للتحكم الشامل في الحراك السياسي والاجتماعي، بفضل السيولة المالية الغزيرة والاستناد إلى اللوبي البترولي العالمي ذي النفوذ القوي والذراع الطويلة.

ومع اقتراب تصدير أول شحنة من النفط الموريتاني إلى الخارج (ديسمبر 2005) وتسابق كبريات شركات التنقيب العالمية على الشواطئ والصحاري الموريتانية التي يجمع الخبراء على أنها من أغنى مناطق العالم بالبترول، أصبح لدى ولد الطايع إحساس قوي بالقدرة على استثمار الأهمية الاستراتيجية الجديدة لبلاده في تعزيز نظامه، ونسج علاقات تحالف مكينة مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي، خصوصا بعد أحداث سبتمبر 2001، التي جعلت الحرب على الإرهاب أولوية الأوليات لدى صانع القرار الأميركي.

غير أن حسابات ولد الطايع التي بدت متناسقة ودقيقة، عانت من ثغرة رئيسة هي العجز الفادح عن تطوير نظامه من الداخل في ضوء المستجدات والتطورات الداخلية والإقليمية والدولية بحيث بدا نشازا في منطقة جواره المباشر التي عرفت تحولات نوعية في السنوات الأخيرة: تجربة التناوب الناجحة في السنغال ومالي، والإصلاحات السياسية الهامة في المغرب والجزائر.

وهكذا لم يقرأ القراءة الصحيحة الانتفاضة العسكرية التي كادت تودي بحكمه يوم 8 يونيو 2003، واعتبرها عملا إرهابيا محدودا، حتى ولو أقر في لحظة مصارحة عابرة بعمق الأزمة وأرجعها إلى عدم تنفيذ أوامره وتوجيهاته (خطاب مدينة كيفة في يوليو 2003).

وفي حين كانت الانتخابات الرئاسية التي نظمت في نهاية نوفمبر من السنة نفسها فرصة استثنائية لتصحيح اختلالات المسار الديمقراطي، سواء بعدم تقدمه للمنافسة إثر عشرين سنة من ممارسة السلطة أو الإعلان عن إصلاحات جوهرية لتجديد النسق السياسي والانفتاح على أحزاب المعارضة وتشكيلات المجتمع المدني، آثر الرئيس ولد الطايع إقصاء خصومه بالطرق القمعية ذاتها، فسجن أحد أهم المرشحين للاقتراع الرئاسي (الرئيس السابق ولد هيدالة) قبيل فتح صناديق الانتخابات، قبل أن يزج بأبرز رموز المعارضة في السجن، متهما إياهم بالضلوع في محاولات انقلابية شكك أغلب المراقبين في حقيقتها.

وشكلت محاكمة تنظيم «فرسان التغيير» في الشتاء الماضي فرصة أخرى للنظام لإصلاح أخطائه فأضاعها، على الرغم من الأحكام القضائية التي اعتبرت مخففة. فما كشفت عنه المحاكمة المذكورة هو تردي وضع المؤسسة العسكرية التي هي الركيزة الأساسية لأمن البلد واستقراره، وما بينته هو خطورة انسداد أفق التغيير السياسي السلمي الذي سيفضي حتما إلى مشاهد تحول خطرة وغير محسوبة.

ولذا يمكن النظر إلى عملية التغيير الأخيرة التي قادها العقيد أعلي ولد محمد فال مدير الأمن السابق بصفتها عملية إنقاذ فعلية للمسار الديمقراطي المتعطل في مستوييه المحوريين: الحريات العامة المقيدة وخيار التناوب المسدود.