حول تصريح الأمير سلمان .. هذه ليست دولة عقاب

TT

جاء تصريح سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير الرياض مقدمة للخبر المفرح ، وهو إطلاق الإخوة المسجونين على ذمة تقديم عريضة الإصلاح التي تناولتها الصحف في حينها. وجاء خبر العفو متزامنا مع خبر أعظم منه ، وهو العفو الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عن الأخوة الليبيين المتهمين بالتآمر لقتله. إنه العفو عند المقدرة، إذ هو الأعظم عند الله كما عند البشر. لقد كان يوما تحقق فيه قول الأمير سلمان في تصريحاته للصحافيين، إن « الدولة ليست دولة عقاب».

تناول الأمير سلمان عددا من القضايا التي تهم، ليس السعوديين فقط، بل كل محب لهذا البلد وأهله، لأنها قضايا لم يعد الحديث عنها داخليا، يمنع تناولها من الخارج، وربما يكون هذا التناول له أغراض تبدو في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب. لا شك أن هناك تحولين كبيرين في السعودية وحولها، الأول هو أن هناك طائفة كبيرة من أهل الرأي الذين أتاحت لهم المملكة في العشرين سنة الأخيرة على الأقل، إن لم يكن قبلها، سوية من التعليم والاتصال بالخارج وتعلم مهارات جديدة، كما تدفق من مخرجات التعليم العام والجامعي مئات آلاف من طلاب الجيل الجديد، والذي أصبح بعضهم أستاذة في الجامعة، وأطباء ومهندسين ورجال أعمال شاركوا العالم في الانجازات العلمية والطبية. ولعل الذكر هنا يأتي على العمليات الجراحية الدقيقة التي تمت أمام نظر العالم لفصل الولادات الملتصقة، وهي مؤشر على ما وصل إليه هؤلاء الشباب من مقدرة، عدا عشرات الأمثلة المتاحة على المستويات العلمية والهندسية والفكرية في المملكة اليوم. هذا التحول الاجتماعي الثقافي العلمي له متطلبات توجب مسايرة العصر المتغير، وهي عملية ليست جديدة أو عسيرة في تاريخ المملكة العربية السعودية الحديثة، فلا الانتخابات جديدة ولا مجلس الشورى جديد، وربما تختلف الآليات ولكن لا يختلف المبدأ.

أما التحول الثاني، فهو عالمي ودولي يعرف اليوم اختصارا بالعولمة، وهي تؤثر بسبب وسائل الاتصال والمواصلات السريعة حتى في آخر قرية وآخر بيت في العالم، والسعودية ليست بعيدة عن مناخ التأثر هذا. إذن هناك ثبات في المرجعيات وتحولات في الأدوات والمناهج، أشارت إليها بحذق تصريحات الأمير سلمان.

ولعلي أرى أن هناك ملفات تطرق إليها التصريح، منها تأهيل الشباب والقضاء على البطالة، وهي آفة في المجتمعات، وضع التأهيل قبل الإحلال، لأننا نعرف أن سوق العمل في السعودية يعج بغير السعوديين، ولكن الإحلال هو جزء من الحل، أما التأهيل فهو الحل كله.

الحديث الآخر هو الإشارة إلى المؤسسة الدينية، وهي كما قال الأمير نشأت مع نشوء الدولة، إلا أنها بالضرورة تحتاج إلى أن تتحول إلى مؤسسة بالمعنى الحقيقي للكلمة، ففوضى الإفتاء التي واجهناها في السنوات الأخيرة، غررت ببعض شبابنا، والمأسسة هي الابتعاد عن الإفتاء الفردي، وصولا إلى الإفتاء الجماعي المطلوب ، والصادر بروية وعن علم وتدبر، لا عن دافع سياسي أو جهل مدقع. أهم ما لفت نظر المراقبين في هذا التدفق الكبير الذي وفد لتأدية واجب العزاء بالملك الراحل فهد بن عبد العزيز، رحمه الله، وواكب مبايعة الملك عبد الله. لمن يريد أن يقرأ دون حساسية، أن الشعب السعودي بعيد عن التطرف نابذ للمتطرفين. هم موجودون نعم، ولكن أجندتهم غير قابلة للترويج ، لأنها ببساطة منافية للعصر، تريد أن تعيد المجتمع السعودي نصف قرن إلى الوراء ، على الأقل. والأسرة المالكة على كل حال سبق لها أن واجهت أمورا مماثلة. الملك المؤسس رحمه الله الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن واجه ذلك، ومن بعده كذلك الملك فيصل رحمه الله، وان بدرجات مختلفة. إلا أن الأساس هو مقابلة أجندة ماضوية على أفضل وصف لها، وقريبة إلى الجهالة، مستفيدة من بعض الأخطاء، ومن تراكم معرفي هيئ له في غفلة، مواجهة كل ذلك بالحكمة والتعامل من منطلق الدولة المؤيدة من الناس.

هذا الحشد يقول لنا كمراقبين إن الإصلاحات مرحب بها، ومواكبة للتطور الإنساني الذي تمر به المملكة العربية السعودية، وهي مؤيدة من العقلاء. سيظل البعض نتيجة التراكم السابق يغرر ببعض الشباب، وسيظل البعض يستفيد من الأخطاء الطبيعية في بلد كبير كالسعودية، إلا أن الغالبية بخروجها العفوي في الأيام القليلة الأخيرة ، تعني شيئا واحدا، هو رفض قاطع لأجندة التطرف، التي تعرف بحدسها أنها تخل بالأمن وتعرض حياة الناس للخطر، فضلا عن أنها تدعو إلى شكل من الاجتماع الإنساني تجاوزه الزمن.

لقد جاء الأمير سلمان على عناوين أخرى، منها العلاقة مع الولايات المتحدة، وهي علاقة ظهرت متانتها من خلال الوفد الكبير الذي حضر: نائب رئيس الجمهورية ووالد الرئيس ووزير الخارجية السابق، هما ثلاثية تعني التجمع الأمريكي بما فيه الرئيس السابق بيل كلينتون. ولا يحتاج الأمر إلى استشهاد اكبر. تلك قراءة عجلى لما تحدث به الأمير سلمان، وهو الرجل الذي يتمتع باحترام شديد بين الطوائف المختلفة لأهل الذكر وأهل القلم، كما يتمتع بـخبرة بالحياة وبالرجال، ويعرف عن قرب نبض الشارع السعودي والعربي.

* كاتب كويتي