مَقْتل قرنق .. المثير للشبهات!

TT

وكأن السودان بحاجة الى مأزق جديد، بالإضافة الى المآزق المتفاقمة التي تطوقه من كل الجهات، فمقتل جون قرنق بالطريقة المثيرة للشبهات وبعد ثلاثة أسابيع فقط من تتويج عملية السلام في الجنوب، بعد حرب استمرت لأكثر من عشرين عاماً، باختياره نائباً أول للرئيس السوداني أعاد خـلط الاوراق من جديد وبصورة مربكة في بلد عانى ولا يزال من الازمات الشيء الكثير وفتح أبواب الاقتتال مرة أخرى على مصاريعها.

ربما لن تؤدي التحقيقات التي ستجرى بالنسبة للحادث الذي أودى بحياة هذا الرجل، الذي كان قبل انشقاقه وخروجه على الدولة المركزية نائباً للرئيس عمر حسن البشير عندما كان لا يزال قائداً لإحدى «القِطَعْ» العسكرية السودانية، لكن ما يمكن قوله منذ الآن ان هناك شبهات تحيط بهذا الحادث المأساوي، وأن هذه الشبهات يمكن تلخيصها بشبهتين رئيسيتين هما: أولاً، ان وقوع هذه «الجريمة» بعد ثلاثة أسابيع من توقيع اتفاقية السلام بصورة نهائية بالنسبة للجنوب واختيار جون قرنق الذي قاد التمرد على الحكومة المركزية لواحد وعشرين عاماً يدل على ان وراء الأكمة ما وراءها وان الهدف هو تدمير ما تم التوصل إليه بعد حرب أهلية طويلة تقدر خسائرها البشرية بنحو مليوني إنسان وإن المقصود هو الإبقاء على السودان غارقاً في هذه الأزمة التي فتحت أبواب كل الأزمات الأخرى المستفحلة الآن.

ثانياً، ان بروز أوغندا والرئيس يوري موسيفيني على مسرح هذه «الجريمة»!! بقدر ما أبعد الشبهات عن الرئيس السوداني عمر حسن البشير ونظامه وأجهزته بقدر ما وضع دائرة شك كبيرة حول الدور الأوغندي وحول القوى الجنوبية المحسوبة على «كمبالا». ستقول التحقيقات رأيها، ذات يوم قريب أو بعيد، ولكن أليس هذه مسألة تثير الشبهات والشكوك ان يذهب جون قرنق، بعد ثلاثة أسابيع فقط من اختياره نائباً لرئيس الدولة السودانية، ليلتمس حلاً لدى يوري موسيفيني لعصيان ثلاثين مجموعة متمردة على اتفاقية السلام التي تم التوصل إليها، والتي جرى التوقيع عليها ثم يغادر العاصمة الأوغندية بطائرة الرئيس الأوغندي العسكرية الخاصة الجديدة والحديثة والمتطورة فتكون نهايته هذه النهاية المأساوية. إن المعروف ان تمرد الجنوب بدأ في جانب مهم من جوانبه الرئيسية بنـزوة من نزوات العقيد معمر القذافي الكثيرة فصاحب «الجماهيرية الاشتراكية الديمقراطية العربية العظمى»، أغضبه بعد ان قدَّم رقاب قادة الحزب الشيوعي السوداني الى مفرمة الجنرال جعفر النميري في تلك الحادثة المخزية المعروفة ان رئيس السودان الأسبق لم يحفظ له هذا «الجميل»، فبادر الى فتح خزائن جماهيريته ومستودعات أسلحتها الى العقيد جون قرنق، الذي أرسلته الخرطوم الى الجنوب ليقمع تمرده وعصيانه، فانضم الى هذا العصيان وأصبح قائده بحجة رفضه ومعارضته لتطبيق الشريعة الاسلامية في هذه المنطقة التي يدين أهلها بالديانة المسيحية. والواضح من ذهاب العقيد جون قرنق الى «كمبالا»، بعد إتمام عملية السلام بين الجنوب المتمرد والحكومة المركزية في الخرطوم وبعد ثلاثة أسابيع فقط من اختياره نائباً أول لرئيس الجمهورية ان هناك مشكلة مع الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني وان اوغندا التي بقيت متورطة في العصيان الجنوبي حتى عنقها غير راضية عن حل هذه القضية التي بقيت توفر لها تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية السودانية.

ثم أن من يعرف مدى تطلعات يوري موسيفيني، منذ مجيئه الى الحكم، للعب دور رئيسي في قضايا افريقيا الملتهبة وحروبها الأهلية والقبائلية لا بد وان يدرك انه لا بد وان يكون لأوغندا دور ما في خروج نحو ثلاثين مجموعة وجماعة جنوبية على قرنق. ربما ان حسابات يوري موسيفيني وتطلعاته في اتجاه السودان، الآن وبعد ست سنوات، تهدف الى قيام دويلة جنوبية في هذه المنطقة الواعدة جداً بالنسبة للاحتياطات النفطية تكون ملحقة بأوغندا وتابعة لها، وهذا ما يفرض على الخرطوم ان تكون حذرة في التعامل مع الاوضاع المستجدة بعد مقتل جون قرنق، بهذه الصورة التي تحيط بها الشكوك والمثيرة للكثير من الشبهات. إن ما هو متوقع، بعد ان حصل ما حصل، هو ان لا تستسهل الخرطوم الامور وان لا تتصرف على أساس انها تخلصت من خصم قوي وعنيد، شعبيته كاسحة في منطقة الجنـوب وعلاقاته متينة مع الولايات المتحدة والكثير من دول العالم، فانتزاع هذا الرجل من معادلة ما بعد توقيع اتفاقية السلام ورحيله، سواء كان هذا الرحيل مجرد ضربة قدر أو نتيجة مؤامرة جرى حبكها في ليل دامس، فتح على السودان أبواباً كثيرة لا بد من إغلاقها بسرعة. لا بد من ان تتعامل الخرطوم مع هذا التطور بمنتهى الجدية، وعلى اساس ان ما جرى قد استهدف عملية السلام نفسها بمقدار استهداف زعيم جنوبي اصبح نائباً لرئيس الجمهورية، فالأبواب التي فتحها مقتل جون قرنق وبهذه الطريقة المثيرة للشكوك والشبهات لا بد من إغلاقها بسرعة وحكمة وقبل ان تتوغل يد المصالح الإقليمية والدولية أكثر وأكثر في القضايا السودانية المتفجرة والخطيرة وقبل ان تعود أزمة الجنوب الى المربع الأول!!. ثم وبالمقدار ذاته، فإنه على قوى المعارضة الممثلة أساساً بالدكتور حسن الترابي وحزبه وتياره أن لا تعتقد ان مقتل قرنق قد وفَّر لها فرصة لتسديد حساباتها مع الرئيس البشير، فهذه قضية وطنية لا يجوز التلاعب بها ولا إخضاعها للمصالح الحزبية والشخصية الضيقة.. فالمستهدف هو السودان بوحدته وتماسكه ومكانته، وبكل أحزابه وقواه بما في ذلك الفصائل المتمردة الجنوبية.

ويبقى، في النهاية، أنه لا بد من أخذ تصريحات موسيفيني، التي تحدث فيها عن أن مقتل قرنق ليس مجرد حادث عادي والتي حاول من خلالها الإشارة بإصبع الاتهام الى نظام الرئيس البشير، بمنتهى الجدية فهدفها تحريض الجنوبيين لإدارة الظهر لعملية السلام والعودة الى السلاح.. وهذا يؤكد الشكوك المثارة وإن بشيء من الخجل والتردد حول دور أوغندا في هذا الحادث، الذي مما يزيد الشكوك حوله أن أداته كانت المروحية الرئاسية الأوغندية.. «الحديثة والمتطورة»!!.