يا كتاب الدستور العراقي .. هذه تجربتنا في إيران

TT

العراق بلد عجيب، صمد عبر التاريخ في كل الازمات والمصائب التي حلت به، ليبدأ بعدها مرحلة جديدة واعدة. قبل حوالي اربعة آلاف عام، حكم العراق ومن مدينة بابل، الواقعة على مسافة 90 كيلومترا جنوب مدينة بغداد، الملك حمورابي، والذي ظل في الحكم لفترة 43 عاما. لقد جعل حمورابي خلال فترة حكمه مدينة بابل، اجمل واغنى واهم مدن العالم آنذاك، مدينة لها 1179 معبدا واكثر من 100 من التماثيل الجميلة والساحرة والتي تمثل الاسود في الطريق الى معبد عشتار. كانت نظرات تلك الاسود والمطلية اجسامها باللون الاسود والازرق، ووجوهها باللون الذهبي، وأسنانها الناصعة البياض، تعكس الهيبة والقوة والود والمحبة في آن واحد. كانت مدينة بابل، مدينة العبادة والسلام والصداقة، وفيها اعلن حمورابي في عامه الثاني من الحكم، مجموعة من القوانين، والتي عرفت بقوانين حمورابي، ولذلك يعتبر حمورابي اول واعظم مشرّع للقوانين في التاريخ.

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

ايران والعراق، بلدان مجاوران، لهما تاريخ وحضارة وثقافة مشتركة. في فترة من الفترات وقبل الفتح الاسلامي كانت مدينة تيسفون (المدائن) عاصمة للامبراطورية الفارسية، وبعد الفتح الاسلامي للعراق، كان اول حاكم على العراق من الصحابة الايراني سلمان الفارسي. بغداد والفرات و... أسماء لها جذور فارسية. ويمكن تصوير ايران والعراق مثل نهري دجلة والفرات، لهما مصدر واحد، وفي طوال مسيرتهما التاريخية يقتربان من بعضهما البعض لفترة، او يبتعدان عن بعضهما لفترة، ولكن في نهاية الطريق يلتقيان في شط العرب ـ اروند رود، ويشكلان كتلة واحدة، ويصبان في مياه الخليج الفارسي.

في الثمانينات كانت هناك حرب بين البلدين دامت حوالي ثماني سنوات. سالت فيها دماء مئات آلاف من الايرانيين والعراقيين، إلا انه بعد سقوط نظام صدام حسين، جاءت الفرصة كي ينسى الجاران الحرب المدمرة وما ترتب عنها من آلام، وان يبدآ صفحة جديدة، صفحة التقارب والتعاون، لا سيما وان ما يربطهما من وشائج كثيرة جدا، ابرزها اعتناق غالبية الشعبين بالمذهب الشيعي، والذي يضيف سمة مهمة لأهمية العلاقات بين هذين الجارين. الكثير من الايرانيين ولا سيما علماء الدين كانوا يفضلون الاقامة في العراق، ابرز مثال على ذلك في الوقت الحاضر هو المرجع الشيعي الكبير آية الله العظمى السيد علي السيستاني، والذي لم يشارك في الانتخابات التي جرت في العراق لأنه ما يزال يحمل الجنسية الايرانية، إلا ان تأثيره على الساحة العراقية كان مشهودا وبارزا.

ان معدي الدستور العراقي والذين اشاروا الى القوميات العراقية مثل التركمان والآشوريين و.. كانوا يهدفون من خلال الاشارة الى القومية الفارسية في المادة رقم 3، الى التاريخ والحضارة والثقافة والتواجد المشترك بين الشعبين في فترات من التاريخ. والنقطة التي اود طرحها في هذا المجال هي، ان يستفيد العراقيون في هذه الفترة الحساسة والمصيرية، اي مرحلة الاعداد والتصويت على الدستور، من التجربة الايرانية.

* باعتقادي ان اساس القانون وفلسفته، هو اهم من العبارات. ولو كان الاساس غير سليم، فإنه يمكن تفسير القانون كل حسب هواه. وستكون في النهاية مثل نشيد البحار القديم كولريتش: الماء في كل مكان، الا انه لا توجد قطرة واحدة للشرب.

تتذكرون ان صدام حسين اطلق اسم حمورابي على فيلق الحرس الجمهوري! وقام في الثاني من شهر اغسطس (آب) من عام 1990، بغزو الكويت بواسطة هذا الفيلق عن طريق البصرة.

في التجربة الايرانية، جاء عند اعداد الدستور في المادة الخاصة بوظائف وصلاحيات مجلس صيانة الدستور ـ شوراى نكهبان قانون اساسي ـ المادة 99، كلمة «الاشراف». لقد تم تفسير هذه الكلمة بصورة موسعة وغريبة، لدرجة تبدل فيها مصير الانتخابات في ايران بصورة عامة. فمثلا في انتخابات الدورة التشريعية السابعة رفض مجلس المحافظة على الدستور اهلية اكثر من 100 نائب من نواب الدورة التشريعية السادسة، وأثبت خلاف كلمات السيد المسيح (ع): يلج الجمل في سمّ الخياط!

اذن فإن العبارات والتسميات مهما كانت دقيقة ومحددة، لا يمكن الاعتماد على تفسيرها بصورة صحيحة وكما كان المشروع ينويها، في بناء وأساس غير سليم ومعوج. كما نعلم فإن القانون يجب أن يكون ذاتيا وذا طبيعة عادلة. والقرآن الكريم يقول حول الأعداء: «اعدلوا هو أقرب للتقوى».

في الفترة التي كنت فيها مسؤولا على حقيبة وزارة الثقافة الايرانية، قال أحد القضاة البارزين لمساعدي لشؤون الإعلام والصحافة: «سنسلخ فروة رأس الصحافة والصحافيين بالقانون»! وللحق أقول إنهم نفذوا وعيدهم هذا، استنادا الى قانون مكافحة الفحشاء والبلطجية، وتصدوا للصحافيين. الكاتب الصحافي أكبر غانجي والمسجون حاليا أحد هؤلاء الضحايا. في الدستور الايراني جاء ذكر كلمات الحرية والحريات المشروعة وحرية الفكر والعقيدة والقلم 12 مرة (مثل المادة 175 من الدستور). والأكثر من ذلك اعتبر المشرع الحرية متلازمة مع كلمة الاستقلال، حيث جاء في المادة التاسعة من الدستور: لا يحق لأي مسؤول، ان يسلب الحريات المشروعة، وذلك من خلال وضع قوانين جديدة بحجة الحفاظ على استقلال البلاد ووحدة التراب الوطني.

لذا فإن بناء القانون، بمثابة اساس وهيكل البناء والتسميات ليست سوى لتزيين البناء وتجميله.

* يمكن القول إن المادة الثانية من الدستور العراقي، قد تم اعداده بشكل ذكي، اذ تعتبر هذه المادة واحدة من أهم المواد التي سيدور النقاش حولها. وحسب ما جاء في صحيفة الصباح بتاريخ 26 تموز/يوليو 2005م، فان هذه المادة تقول: الاسلام دين الدولة الرسمي، وهو المصدر الاساسي للتشريع، ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابته واحكامه (ثوابته المجمع عليها)، ويصون هذا الدستور الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي (بأكثريته الشيعية والسنية)، ويحترم جميع حقوق الديانات الاخرى. الاجزاء والفقرات الخمس في هذه المادة أعدت بصورة دقيقة وحكيمة، ولا سيما المادة العاشرة والتي تعتبر تكملة هذه المادة، والتي تقول:

الحريات والحقوق الاساسية الواردة في الدستور مكفولة للجميع ولا يجوز سن أي قانون ينتقص منها (تلحق بالمادة الثانية).

من غير شك تعتبر هذه المعادلة مقبولة ويمكن الدفاع عنها، اي ان الشريعة لا يمكن ان تهدد الحقوق الفطرية والاساسية للانسان. والله سبحانه وتعالى جعل الدين متناسبا وملائما مع فطرة الانسان، حيث يقول جلاله في الآية 30 من سورة الروم: «فأقم وجهك للدين حنيفا. فطرة الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القديم». كما انه معروف ان الشريعة والعقلانية لا يمكن ان يقفا ضد بعضهما بعضا، وكما في اصول الفقه: كل ما حكم به العقل، حكم به الشرع. ويعتبر المجتهدون هذه القاعدة ملازمة للعقل والشرع.

اما ما حصل في التجربة الايرانية بعد حوالي عشر سنوات من اعداد الدستور، هو ان بعض القوانين كانت مغايرة ومتعارضة مع الشريعة، الا ان المصلحة العامة كانت تقتضي العمل به. ومن وظائف مجمع تشخيص مصلحة النظام في ايران، هي الموافقة على قوانين اعدها مجلس الشورى الاسلامي (البرلمان)، يعتبرها مجلس صيانة الدستور، بأنها منافية للشرع ونصوص الدستور. نذكر اهمية هذه النقطة للتوضيح بأن جميع علماء الدين الذين اجتمعوا في مجلس اعادة النظر في الدستور، أواخر حياة آية الله الخميني، وافقوا على أن هناك حالات تستوجب المصلحة العامة، أي تفضيل وترجيح المصلحة العامة على الشرع. فقهاء مجلس صيانة الدستور خلال الفترة من عام 1980 إلى عام 1990م، كانوا يؤكدون على ان القوانين يجب ان تكون متطابقة مع الشريعة. بعد ذلك ومع اعادة النظر، وافقوا على ان لا تكون القوانين مغايرة للشريعة. المسافة بين أن تكون متطابقة ومغايرة، تكون في بعض الاحيان كبيرة جدا.

في مشروع الدستور العراقي، تمت الاستفادة من كلمة التعارض، والتي هي أدق وأفضل من كلمة مغايرة. في السنوات العشر الأولى من الثورة، واجه مجلس صيانة الدستور صعوبة كبيرة عند الموافقة على الميزانية العامة للدولة، ولا سيما في الفقرة الخاصة بالضرائب، لأنهم ببساطة لم يستطيعوا أن يثبتوا أن أخذ الضرائب تتطابق مع الشريعة.

* «للمرجعية الدينية استقلالها ومقامها الارشادي كونها رمزا وطنيا ودينيا رفيعا».

يقال إن هناك فئة في لجنة اعداد الدستور تتحفظ على هذه المادة. أقول ضعوا التجربة الايرانية نصب اعينكم. فمبدأ ولاية الفقيه، تحول في اصلاح الدستور الى ولاية الفقيه المطلقة. واليوم وحسب الدستور، يملك الولي الفقيه كل الصلاحيات، دون ان يستطيع أحد أن يوجه له السؤال. هذه الازدواجية، اي تمركز كل الصلاحيات بيد فرد واحد، وعدم امكانية استجوابه، يمكن ان يعرض الشعب والبلاد لأزمة، لذلك فإن سمات الدستور العراقي والذي يدور على التمركز المنطقي والفيدرالية، لو تم اضافة مركز قوة رسمي آخر إليه، يمكن أن يعرض العراق إلى اخطار، ابرزها التجزئة. ومع ذلك يمكن القول إن التركيبة الدينية والقومية في العراق، هي بشكل، لا يمكن لعلماء الدين فيه، القيام بنفس الدور الذي يقوم به علماء الدين في إيران، وهي في الواقع سمة مهمة يتميز بها الشعب العراقي.

في إيران، كان آية الله منتظري هو الشخصية المهمة الذي سعى لاعطاء دور مهم لعلماء الدين في الدستور الايراني بعد الثورة. وهو الذي أدرج مبدأ ولاية الفقيه في الدستور، اذ كان وقتها يرأس مجلس الخبراء (أي مجلس اعداد ووضع دستور الجمهورية الاسلامية الحالي). كما انه قام بتأليف كتاب مهم من أربعة اجزاء باسم «دراسات في ولاية الفقيه» ومع ذلك فإنه تعرض أكثر من غيره من مساوئ نظريته هذه، لدرجة تم حصره في منزله، كما حرموه من القيام بالتدريس، ولفترة تتجاوز الخمس سنوات لم يستطع مغادرة منزله.

تجربة إيران اليوم، والدستور الحالي والذي يجعل علماء الدين يسيطرون على الحكم، والآثار الناتجة عنها وعواقبها، هي خير شاهد لكم. صحيح أن آية الله العظمى المرحوم السيد الخوئي، بوصفه كان مرجعا كبيرا، كان معارضا لولاية الفقيه، وكان يعتقد أنه لو حمل الفقيه عصا السلطة، فإن هذه العصا ستتحول الى تنين، لن يضر فرعون وهامان فقط، بل ستصل اضراره الى عامة المسلمين. الامور ستتعقد، والحفاظ على السلطة والقوة والتقديس، ستحلو له، لدرجة ان شخصية مثل هاشمي رفسنجاني، والذي رأس مجلس الشورى الاسلامي لحوالي عشر سنوات، ومثلها كرئيس للجمهورية، ورئيس لمجمع تشخيص مصلحة النظام، يقول في البيان الذي اصدره بعد اعلان نتائج الانتخابات: لأنه لا يوجد من يحكم بالعدل، فإني اتوجه بشكواي لله عز وجل. انها نفس الفتنة التي وصلت نيرانها الى ابناء واصدقاء الثورة من امثال هاشمي رفسنجاني وكروبي وجوادي آملي وتوسلي.

أيها الاصدقاء العراقيون، انتبهوا الى بناء وأساس دستوركم. ان الشعب العراقي تحمل الصعوبات والشدائد أكثر مما يستحق. ليس من الانصاف ان تجعلوا الشعب العراقي ينكوي بالاستبداد الديني، والذي هو أعنف وأشد انواع الاستبداد. هذا النوع من الاستبداد والذي حذر منه الفقيه الكبير آية الله نائيني قبل قرن كامل من الزمان في كتابه المهم «تنبيه الملّة وتنزيه الأمة» حيث قال عن الاستبداد الديني بانه أَمَرّ من الاستبداد الملكي بمرات.

* كاتب وباحث إيراني

[email protected]