... في استذكار جلسة أبوية مع الملك فهد

TT

ما أن تم الإعلان عن وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، حتى جالت في ذهني العديد من الأفكار والتصورات والذكريات حول شخصيته المتميزة ودوره الخلاق، وخاصة بالنسبة لنا أبناء هذا الجيل من المواطنين. تذكرت مواقفه الجريئة والحاسمة وقدرته دون غيره على التصدي للأمور الشائكة والكبيرة بكل ثقة وحزم وحكمة.

لقد شاءت الأقدار ان أتشرف بلقاء خادم الحرمين الشريفين في لقاء محدود برفقة ثلاثة من الزملاء من أبناء هذا الوطن المعطاء ذات أمسية جميلة من ليالي مدينة جدة ، وفي قصره العامر وذلك في شهر سبتمبر من عام 1993 . وحيث كنا حينها نعيش في الخارج ونتبنى مواقف مغايرة تبعتها أنشطة سياسية وإعلامية متعددة، وقدومنا للمملكة كان لغرض لقائه ـ رحمه الله ـ وعرض وجهات نظرنا عليه، فقد كانت التوقعات كثيرة ومتنوعة، والمشاعر متناقضة وخاصة ان هذا هو أول لقاء مباشر معه وموضوع الحديث قد يكون شائكا ومتشعبا لكونـه يتعلق بهمـوم وطنية متعددة.

منذ ان استقبلنا شعرت بأن اللقاء احتضن الوطن جميعه، فأبوته ورعايته اللتين شملنا بهما سرعان ما كسرتا كل الحواجز والقيود وبددتا الأفكار المتناثرة والمتضاربة. في هذا اللقاء بدا وكأن هنالك معرفة سابقة وطويلة معه، من خلال سؤاله المستمر عن أحوال كل فرد من الحضور، وعن أخبار المجتمع وهموم الناس والمواطنين بمن فيهم من هم في الخارج، واستطاع بقدرته الفذة ان يحول اللقاء وفي دقائق معدودة إلى جلسة نقاش عائلي، لا يشعر احد بأي حاجز أو تكلف في ما يريد قوله أو نقاشه معه.

صار يتحدث، رحمه الله، عن مجمل القضايا والمشاكل بصورة ودية، يقربها إلى الأذهان وكأنها مشاكل أسرية قابلة لأن تحدث بين أفراد أي عائلة، ويربطها بصورة سريعة مع مجريات الوضع في الوطن ككل، وكأنه يريد القول إن هذا الوطن هو أسرتي وأن شعبه كله هم أبنائي، وأنكم لكم كل الحق في الاختلاف ولن ينقص ذلك من حقوقكم كمواطنين شيئا.

يستمع بإصغاء إلى كل قضية ومشكلة ثم يعلق عليها، واضعا لها الحل المناسب والقرار الحاسم ان لزم الأمر، أو شارحا ظروفها وملابساتها مؤملا في إيجاد حلول مناسبة لها كلما أمكن. يستغرب أحيانا من استمرار وبقاء مشكلة ما لفترة طويلة تؤرق بعض المواطنين من دون ان يتخذ حيالها قرار أو علاج حاسم. نعم لقد كان صاحب دراية وحسم، وكان ـ رحمه الله ـ مستعدا لمتابعة قراراته بنفسه للتأكد من سريانها وتنفيذها. لا يتذمر من طرح أي قضية أو موضوع عليه مهما كانت حساسيته، محاولا الوصول إلى حقيقته وظروفه وملابساته. بل ان نظراته توحي لك بالتشجيع لطرح ما تريد قوله، مهما كانت تحفظاتك.

لا يتردد في عرض تجاربه الشخصية وخبراته التي مر بها في مشوار حياته، ابتداء من تربية أبنائه حتى علاقاته مع مختلف الشخصيات العالمية، يضعها بين يدي الحاضرين ليستخلصوا منها العبر والدروس، ويوجه الأنظار إلى ما قد يكون خَفِيَ من أمر على ضيوفه. يتحدث بكل فخر واعتزاز عن قصته مع التنمية ومشاريعها ومشاكلها، وكيف انه دخل في جدل قوي في إحدى جلسات مجلس الوزراء وكان وقتها وليا للعهد حول أفضل السبل لاستثمار العوائد المالية الكبيرة التي انعم الله بها على المملكة. كان إصراره على ان توجه هذه الإيرادات في مشاريع التنمية المختلفة، من دون أي تردد أو تباطؤ، وكان ذلك قرارا استراتيجيا وقف خلفه بكل قوة. يدعو ضيوفه الى الاطلاع على معالم النهضة المختلفة في البلاد، وخاصة في توسعة الحرمين الشريفين التي يعتبرها احد ابرز انجازاته الكبيرة.

لا يتردد أبدا في الإقرار بوجود مشاكل وهموم لدى المسؤولين والمواطنين بمختلف مواقعهم ومناطقهم، ولكنه دون غيره يضع الخيارات والحلول الممكنة، ثم يقف حازما مع الرأي الذي يراه أفضلها. يتفاعل مع قضايا المواطنين ويتلمس حاجاتهم مهما اتسعت وكبرت، فالحديث معه حول هذه القضايا يتضاعف شوقا لأنه مكان اهتمامه الكبير. يقف مع هذه المطالب وكأنه معني بها شخصيا دون غيره، وكأنها هي قضيته الوحيدة وشغله الشاغل. يشير إلى حلول ممكنة في مجالات الفرص الوظيفية في مشاريع النفط، وأهمية إفساح المجال أمام أبناء المملكة في العمل بدون استثناء بل خصوصا ممن هم قريبون من هذه المناطق. يؤكد على ان الوطن للجميع بدون استثناء ولا فرق بين أي مواطن وآخر مهما حاول بعض قصيري النظر من تفصيل هذا الوطن على مقاسهم الخاص، بل كان يكرر أن كل ما في هذا الوطن من ثروات وخيرات ونعم منَّ الله بها عليه هي لكل أبناء الوطن وهم الأولى بالاستفادة منها والتنعم بها بدون ان ينسى المسؤولية الإنسانية والإسلامية تجاه الآخر. لا شك ان الاجتماع به ـ رحمه الله ـ يزيد الإنسان اطلاعا وسعة أفق ودراية بقضايا اشمل واكبر، ويؤكد ان التواصل المباشر بين المسؤول والمواطن يعزز من التلاحم ويقرب من وجهات النظر ويعرف الجميع على مختلف الآراء والأفكار. لقد خرج الجميع من ذلك الاجتماع المهم وهم واثقون أن من يقود بلدهم محل الثقة والتقدير من الجميع، ويحدوهم الأمل بأن جميع تطلعاتهم وهمومهم التي طرحوها هي محل عناية واهتمام كبار المسؤولين في وطنهم، وهي جميعها في طريقها إلى التحقق والتنفيذ ما دامت تصب في خدمة الوطن والمواطنين.

رحم الله خادم الحرمين الشريفين وتغمده بواسع رحمته، ونسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضوان.

* عضو المجلس البلدي في مدينة القطيف بالسعودية