عبد الله ملكا.. بـ (نموذج البيعة)

TT

قبل اعلان نبأ وفاة الملك فهد بن عبد العزيز، كان الامير عبد الله بن عبد العزيز قد بويع ملكا على السعودية.

لقد تمت البيعة الاولى التأسيسية للملك ولولي عهده بينما كان الملك الراحل لا يزال مسجى في فراشه.

وبهذا الاجراء السياسي الناجز: قضى منهج الاسلام: اذ لا يجوز ان يبقى مجتمع المسلمين ودولتهم لحظة واحدة بدون رأس أعلى مسؤول عنهما يدير شؤونها السياسية والأمنية والاقتصادية: الداخلية والخارجية: بلا تأجيل، ولا تعطيل.

و(سوابق) المنهج لا تزال تتألق، وعزائمه لا تبرح ماضية. حين كان اكابر الصحابة يتشاورون في أمر بيعة خليفة المسلمين في سقيفة بني ساعدة، كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال مسجى ببردته: لم يدفن بعد.

ان خلافة النبي ـ يجب ان تنعقد قبل دفنه ـ وهذا برهان حاسم على ان أمة المسلمين قد ادركت في وقت مبكر من تاريخ البشرية السياسي: (مفهوما دستوريا) لم يتضح، ولم يؤصل إلا بعد ذلك بقرون: مفهوم (الفراغ الدستوري)، وكيف يجب اتخاذ الاجراء اللازم الضروري لتفاديه، وهذا الاجراء هو (البيعة الناجزة).. وفي هذا المفهوم نفسه: يثوى مفهوم آخر مكين: مفهوم ضرورة استقرار المؤسسة واستمرارها حتى بعد وفاة مؤسسها الاعظم الذي لن يتكرر ـ قط ـ وهو النبي عليه الصلاة والسلام: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات او قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين». ولقد وفق ابو بكر أيما توفيق الى تلاوة هذه الآية في لحظة الاعلان عن وفاة النبي.. وتركيز أبي بكر: العقل والفهم على هذه الحقيقة ليس تذكيرا بناموس الموت فحسب، بل هو ـ كذلك ـ تركيز البصيرة والوعي والادراك على ان مؤسسة مجتمع المسلمين ودولتهم وجدت لتبقى ولتستمر، لا ان تنهار وتسقط بمجرد وفاة البناة (وينبغي هنا تثمين كلمة قالها في السياق نفسه الامير سلمان بن عبد العزيز منذ ايام، اذ قال: ان الدول التي تقوم على فرد تسقط بسقوط الفرد. ودولتنا هذه انبثقت من صميم الشعب، وتتبع نهجا ثابتا، ولذلك فالاستمرارية دائمة لا تنقطع).

المسارعة الى بيعة الملك عبد الله هي ـ من ثم ـ موقف ايماني سياسي فكري اجتماعي مبني على: (سنة) استنها اكابر الصحابة، وفي طليعتهم الخلفاء الراشدون، وهي سنة ذات مرحلتين متكاملتين: مرحلة البيعة الاولى التأسيسية.. ثم مرحلة البيعة العامة.

وبشأن البيعة العامة: نحن شهود عليها، حاضرون فيها.. لم يكد موعد البيعة يجيء حتى انثالت الجموع الهائلة على قصر الحكم.. ولقد قدرنا ان الزحام سيكون شديدا، فبكرنا بالذهاب الى حيث معقد البيعة ومقامها، فوجدنا من سبقنا الى هناك، اي ان الناس ذهبوا الى قصر الحكم ومحيطه قبل العاشرة ضحى.. وفي القاعة الكبرى في قصر الحكم اصطففنا في صفوف المبايعة.. وبغتة وقعت العيون على رجل كبير السن، نحيل بل ضعيف البنية لا يكاد يثبت في وقفته من الهزال.. وبدافع الاشفاق عليه نصحه كثيرون بان يتفادى الزحام، ولكنه كان مقتنعا بما يفعل حريصا على رؤية الملك وولي عهده رؤية مباشرة، وعلى ان يبايعهما: يدا بيد: مهما تكلف من التعب والمشقة!!

بايعنا الملك عبد الله وولي عهده: بيعة اختيار ورضى على الكتاب والسنة، وعلى العدل والشورى والقيام بفروض الامامة، وعلى السمع والطاعة في المنشط والمكره، واليسر والعسر، وعلى المناصحة، وعلى الا ننازع الامر اهله (على كل عبارة من هذه العبارات: ثمة أدلة من الكتاب والسنة).

واذ بدأت البيعة العامة في قصر الحكم في الرياض: مباشرة للملك عبد الله وولي عهده الامير سلطان بن عبد العزيز، فإن الايام التي تلت ذلك: شهدت صورا كثيفة ومضيئة من البيعة بالانابة او الوكالة عنهما، حيث اناب امراء المناطق عن الملك وولي عهده في اخذ البيعة من المواطنين الذين لا ينقطع لهم صف.

ويتعين ـ هنا ـ: اثبات مسألتين جد مهمتين:

1 ـ المسألة الأولى هي: ان التوكيل في البيعة: أسلوب قرره المنهج واعتمده:

أ - في بيعة الرضوان كان عثمان بن عفان غائبا فاختار النبي ان يكون نائبا عن عثمان في هذه البيعة.

ب ـ في رسالة النجاشي الى النبي، قال النجاشي: «وقد بايعتك وبايعت ابن عمك». فبيعة النجاشي للنبي كانت بواسطة وكيل هو جعفر بن ابي طالب.

2 ـ المسألة الثانية: ان البيعة المشروعة المحبوبة الموثقة: انما تكون بالاختيار والرضى. ففي الحديث النبوي: «من بايع اماما فأعطاه صفقه يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع».. وبديه: ان (ثمرة القلب) لا تكون الا عن الاختيار والرضى المبنيين على المحبة القلبية العميقة.. وبديه ـ كذلك ـ ان بيعة الاكراه لا قيمة لها، لأن المهم: ليس شكل تصافح الايدي. وانما المهم: الاقتناع العقلي والحب الوجداني. ومن هنا يأتي ـ مثلا ـ: ذم امام الصلاة الذي يؤم الناس وهم له كارهون.. ومن الادلة الكثيرة على اشتراط (الرضى) في البيعة: قول النبي: «وآتيكم لتمنعوني حتى ابلغ رسالة ربي، ولا اكره احدا منكم على شيء». وقول ابي بكر: «اجمعوا لي المهاجرين والانصار». فلما اجتمعوا قال لهم: «انتم بالخيار جميعا في بيعتكم».. وقول علي بن ابي طالب: «ان بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون الا عن رضى المسلمين».

وانا لنشهد الله وملائكته والناس اجمعين: ان بيعة الملك عبد الله كانت عن اختيار ورضى، بل عن حب، والا فما الذي يدفع هذه الجموع الضخمة الى الخروج من بيوتها، والتعرض للهيب الحر وهي واقفة تنتظر الفرصة لتبايع، بينما هي حرة في أن لا تفعل؟.. بالتوكيد: لم نر جلادين يسوقون الناس بالعصي والسياط، ولم نسمع تهديدا ولا وعيدا في وسائل الاعلام، ومنابر التوجيه.. وبانتفاء وجود هذه الضغوط والمكرهات: يتضح ان دافع الجموع وحاديها هو: الحب والاقتناع والاختيار والرضى.

ولولا اننا نؤثر استعمال مصطلحات المنهج ومفرداته كـ (البيعة): على مفردات اخرى مثل: الانتخاب، والاستفتاء لقلنا: ـ باطمئنان موضوعي ـ: انه انتخاب بمعناه الحقيقي، او استفتاء صحيح بمفهومه القانوني والميداني.

وخلاصة هذه النقطة الي ينبغي ان تستقر في العقل واوعية (الخبرة البشرية): ان في عالمنا هذا: اساليب ونماذج متنوعة لقياس شعبية الحكم وشرعيته.. وبناء على مسلمة التعدد والتنوع هذه: فإن البيعة في السعودية: نموذج معتبر ومحترم من تلك الاساليب والنماذج السياسية المتنوعة: نموذج في قياس الشعبية، واكتساب الشرعية.

واحياء (السنة) لم ينحصر في (البيعة)، بل شمل ما يعقب البيعة، وهو خطاب او خطبة البيعة، وهي سنة استنها بادئ ذي بدء: ابو بكر الصديق. فبعد البيعة العامة: صعد ابو بكر منبر المسجد والقى خطبة جاء فيها: «ايها الناس اني وليت عليكم ولست بخيركم، اطيعوني ما اطعت الله فيكم، الضعيف منكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه».. واهتداء بهذه السنة: القى الملك عبد الله خطبة البيعة التي نهضت على ركائز اربع: ركيزة المعاهدة على ان الاسلام هو منهج الدولة: وركيزة السير على خطى الملك عبد العزيز.. وركيزة ارساء العدل.. وركيزة اعانة المواطنين له على حمل الامانة، وهي ركائز أصّلها من جديد في اول كلمة له في اول مجلس للوزراء يعقد في عهده ملكا. فقد قال: «ان المملكة لم تزل متمسكة بشرع الله الحنيف والسنة النبوية المطهرة مدركة مسؤولياتها الجسام باعتبارها مهبط الوحي ومنطلق الرسالة ومهد العروبة واحدى ابرز الدول المؤثرة على مختلف الصعد».

وخطبة البيعة.. ثم هذه الكلمة العميقة في مجلس الوزراء، ذلك كله يدل على انه مهما تعاقبت ملوك آل سعود: ملكا بعد ملك ومهما طال الزمن، وامتد الى امام، ومهما تغيرت او تطورت الظروف الوطنية والاقليمية والعالمية، فإن الحقيقة العظمى الثابتة المستخلصة من هذا التاريخ الطويل والتي ينبغي ان تتعلمها الاجيال في المدارس والجامعات. هذه الحقيقة هي (يتعاقب الملوك والنهج واحد).

وتمام المقال: عن (مفاتيح) شخصية الملك عبد الله بن عبد العزيز. ومفتاح شخصية الملك السعودي السادس هو (الرحمة الغامرة، ودقة الاحساس بالمسؤولية). فالدارس لهذه الشخصية ملتق ـ ولا بد ـ بعشرات القرائن التي توثق هذا الشعور بالرحمة. وليس آخر هذه القرائن: ابتداء عهده بـ(العفو) السمح عن مواطنين واجانب: كأول قراراته الانسانية.. اما دقة الشعور بالمسؤولية فتتمثل في مواقف عديدة، اقربها ـ مثلا ـ : حرصه في خطوة البيعة على ان يكون (ارساء العدل) في طليعة اولوياته. فالاحساس بالعدالة هو منبع الاحساس بالمسؤوليات كافة.

وهناك تناغم منهجي وتطبيقي بين هذا الشعور الحي بالمسؤولية وبين البيعة. فالبيعة ليست اجراء شكليا، ولا منصبا فخريا، بل هي مشروطة بالوفاء بواجبات كبرى من بينها، بل في مقدمتها: اقامة العدالة بمفهومها الشامل: ففي الكتاب الذي بويع عليه الملك عبد الله: «وأمرت لأعدل بينكم».. : «وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط».. : «واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل».

وشعور الملك عبد الله العميق الدقيق بالمسؤولية: معين له ـ بحول الله ـ على اداء هذه المسؤوليات الثقيلة المركبة المضاعفة. ذلك ان مسؤولية البيعة (أثقل) أضعافا مضاعفة من مسؤولية أي حكم آخر: محصور في تصريف الامور الدنيوية وحدها. فالبيعة امانة جد ثقيلة عن شؤون الدنيا والدين معا. فهي مسؤولية دنيوية كاملة x مسؤولية دينية كاملة.. ولقد دعا الملك عبد الله الناس بأن يدعوا له. فنسأل الله باسم الاعظم: ان يفيض عليه من عونه في كل شأن، وان يجري الخير والسعادة على يديه للشعب السعودي وللاسرة الانسانية كلها.