ثقافة الدولة القومية ضمان للتسامح الديني

TT

اتضح من استطلاع للرأي لحساب الـ «بي بي سي»، ان ثقافة الدولة القومية لا تزال هي المؤثر الأقوى في تشكيل الهوية القومية للمواطن. وتمر بريطانيا اليوم ببحث في الوجدان Soul Searching وما يصاحبه من آلام، وهو ما صادف الأمم وقت الازمات التاريخية، بعد ان واجهنا 7/7 بالسؤال: هل الإرهاب «تهديد خارجي» ام ان جرثومته نمت في احشاء الأمة؟

كان ارهاب 9/11 مستوردا، فكل ارهابييه من الأجانب ولا امريكيين بينهم. اما ارهابيو 7/7 ومن تبعوهم او قلدوهم يوم 21/7 فهم بريطانيو المولد او جاءوا صغارا وشبوا بريطانيي الثقافة والمعرفة.

نتائج الاستطلاع الأخير خففت بعض آلام البحث في الوجدان. فأغلبية البريطانيين المسلمين (89%) اعتبروا انفسهم بريطانيين اولا، ويشعرون بالفخر عند تحقيق البلاد لإنجازات دولية في مجال الرياضة مثلا، مما يشير الى فشل مخطط الإرهابيين في تفجير صراع بين المسلمين وغير المسلمين.

جاءت اراء المسلمين وآراء العموم متماثلة في ضرورة اتقان المهاجرين للغة الانجليزية واندماجهم في الثقافة القومية البريطانية والموافقة على طرد الاجانب الذين يروجون للارهاب (ثلاثة ارباع المسلمين و90% من عموم المشتركين).

ورأت غالبية المسلمين ضرورة اتقان أئمة المساجد للغة الانجليزية لتكون لغة خطبة الجمعة، فالأجيال الصغيرة البريطانية المولد نادرا ما تتقن لغة الامام «المستورد».

اقل من الثلث ـ من العموم ـ اعتبر التعددية الثقافية Multiculturalism تهدد الهوية الثقافية البريطانية بينما قال 62% انها تثري المجتمع البريطاني. لكن التعبير لا يزال غامضا في الاذهان، إذ ارتفعت نسبة المؤيدين لهذا التعدد اذا ظل خصوصية فردية، وانخفضت نسبة المؤيدين اذا ما ترجم ذلك الى جيتو ثقافي يعمق الانعزالية.

نتائج الاستطلاع تدعم ملاحظة المنطق العام Common Sense وتجارب التاريخ من ان تقاليد الدين ومظاهره ليست قالبا جامدا ـ مثلما يجادل السلفيون ـ وإنما يتعدد تطورها جغرافيا، حسب الظروف الثقافية والاقتصادية والتاريخية للمكان. كما دعمت النتائج شذوذ انعزالية ذهنية «حارة المسلمين» عن المألوف.

عشت خمس سنوات عمري في الإسكندرية وأربعة اخماسه في بريطانيا. كانت الإسكندرية ـ قبل شمولية حكم العسكر ـ موزاييك متعدد الألسن والأديان وحتى الأجناس في اطار ثقافي واحد. كان الحديث يبدأ في حفلات العشاء في بيتنا، بالمصرية، وتتخلله فترات من اربع او خمس لغات. ومع هذا التعدد في المقاهي والمطاعم والجراجات ومكاتب التصدير والشحن اليونانية والإيطالية والتركية والفرنسية والبريطانية، كان الجميع من يهود ومسلمين، ومسيحيين من عدة طوائف، وبوذيين وهندوس وغيرهم يعتبرون انفسهم إسكندريين مصريين تمكنهم ثقافتهم من فهم نكتة محمود شكوكو، ويجمعهم اعجابهم بنفس الفيلم لإسماعيل يس ومزاج الاستمتاع المصري بنفس رقصة سامية جمال. الملاحظ ان مظاهر ثقافاتهم الدينية، لم تنفصل عن الثقافة المصرية الأكبر والأقدم.

لندن التي عرفتها تلميذا قبل 46 عاما، كانت موازييك اكبر، كإرث امبراطورية متعددة الأجناس واللغات والأديان ـ زيارة لمسجد لندن، قبل تجديده، او للكنيسة المصرية، او معبد هندوسي، تخرجك بانطباع ان الإسلام او القبطية لهما خاصية بريطانية الظروف، فيما كان الإسلام الذي خبرته في الاسكندرية مصري الخصوصية، وتطور كفرع من الثقافة القومية للأمة المصرية الأقدم من تاريخ الأديان المعروفة.

فالعزاء في البلدان العربية يكون سريعا وطقوس الدفن بسيطة، بعكس عزاء المسلم في مصر بطابعه الطقسي الاحتفالي ونصب الصوان وتقديم مشروبات، وهو امر يعود الى الديانة المصرية القديمة ـ ايزيس واوزيريس وما تصاحبها من طقوس رحلة الميت في العالم الآخر. ورغم تغيير الأمة لدينها اربع مرات في سبعة آلاف عام، لم تتغير تقاليد مصر للجنازة والعزاء في الفترة نفسها، ذكرى الأربعين مثلا هي فترة تحنيط الميت. ولا تختلف تقاليد زيارة مسلمي 2005 للمقابر عن تقاليد رعايا رمسيس الثاني من عبدة رع، كنزهة Picnic يستغرق الاستعداد لها اياما بالمأكولات والحلوى والمشروبات «على روح الميت».

ودعاة نشر الأديان الذين صاحبوا جيش الغزاة، دائما ما اقتبسوا الثقافة القومية للبلد المستهدف او «المهزوم عسكريا»، من تقاليد اجتماعية وطقوس الدين القديم، ليلبسوها ثوب الجديد كي يلائم ثقافة واقتصاديات المجتمع القائم، ليقبله الناس. 25 ديسمبر مثلا، ليس تاريخ ميلاد المسيح، لكن اختاره دعاة المسيحية كيوم «الكريسماس» لأنه تاريخ وثني اوروبي لمنتصف الشتاء، ومقابله 7 يناير في الشهور المصرية، فأصبح كريسماس الكنيسة القبطية.

والمؤسسة الدينية المصرية (الأزهر) سنية، لكن المصريين المسلمين يحتفلون بأعياد شيعية (من فترة الفاطميين) كعاشوراء بالتركيز على الحلوى كجزء من الثقافة المصرية الفرعونية «إللي بنى مصر... كان في الأصل.. حلواني». وعند مرض الأطفال تبتهل الأمهات بدعاءات اسلامية للقديسة المسيحية سانت تريزا، ويقدمن النذور لها ولأولياء مسلمين (امتداد تراث قرابين ديانة مصر القديمة).

ولذا تنقسم الآراء حول الحجاب، الذي دخل الشرق الأوسط وأفريقيا عن طريق العثمانيين (جو تركيا بارد نسبيا) ولم يكن جزءا من الثقافة البيئية (جو حار) التي يلائمها غطاء رأس يحجب الشمس ولا يمنع التهوية.

كثيرون يرون اصرار بريطانيات عليه عنادا وشارة انتماء «لحارة المسلمين» وليس فرضا دينيا، كحال مراهقات يتمردن على انضباط الزي المدرسي (وبالمناسبة المراهقات الإنجليزيات من غير المسلمات يتمردن بارتداء جونلة قصيرة، وكعب عال).

وتفسير الصغار للتدين كحجة، يصعب مواجهتها، للتمرد على الثقافة العامة والتقاليد السائدة، سيؤدي حتما للتطرف مثلما اثبتت التجارب التاريخية، كما رأينا في نموذجين تابعتهما عن قرب هما بريطانيا ومصر.

ففي الأولى، تمرد الشباب والتلاميذ على الثقافة العامة للمجتمع (الزي المدرسي في هذه الحالة) وعلى اندماج الآباء في بريطانيا (واعتبرها الصغار خنوعا للمستعمر) يؤدي الى انعزالهم، ويجدون القوة و«الانتماء» في تشكيل عصابة فكرية او Cul يتحول فيها الرمز المظهري (الحجاب او القفطان الأبيض والسروال) الى ايدولوجية، وتدفع روح المغامرة الشباب نحو عنف التطرف.

وفي الثانية لم توجد في جامعات مصر ـ حتى نهاية السبعينات ـ طالبة محجبة، باستثناء «الايشارب» في ايام شتوية حتى لا تفسد الريح تسريحة الشعر. طالبات مصر وقتها «بالميني جيب» والكعب العالي كن فاضلات من عائلات محترمة محافظة ومسلمات صالحات و«بنات ناس»، وهن الآن من انجح هوانم مصر الفاضلات في جميع المجالات.

وإذا شاهدت تسجيلات حفلات ام كلثوم الشهرية من الخمسينات، في عصر التدين المعتدل، لا تجد سيدة واحدة تلف رأسها «بايشارب» او حجاب.

الملاحظ انه في عصر «السفور» والمايوه وحفلات ام كلثوم ورقص سامية جمال وتحية كاريوكا، لم يكن هناك ارهاب او انتحاريون او اغتيالات او ظواهري او بن لادن.