لندن: بين مطرقة التطرف.. وسندان الإعلام التحريضي !

TT

عندما زار الكويت رئيس الوزراء البريطاني السابق جون ميجور، بعد خروجه من الحكومة بعد انتخابات عام 1997، للمشاركة في مؤتمر عُقد في الكويت حول التخصيص ، كانت لندن تستقطب كافة أطياف المعارضة العربية والاسلامية ، وتجذب كماً هائلا من شراذم مدعي الديمقراطية والحرية، وتستأثر بمعظم الصحف الصفراء والإذاعات الموجهة والمطبوعات المشبوهة . وكان البعض يطلق على لندن اسم «عاصمة العرب في الغرب» ولم يكن مسمى «لندستان» قد التصق بها بعد.

وعلى هامش المؤتمر وخلال لقاء مجاملة للسيد ميجور، كنت حاضرا فيه مع الشيخ صباح الأحمد ـ نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية الكويت حينذاك ـ مال الشيخ صباح برأسه تجاه جون ميجور وقال: إن ما توفره لندن من سقف للحريات والديمقراطية، وتساهلها في من يستمتع بهذه الحريات بدون مسؤوليات قد يؤدي بالبعض إلى استغلال الوضع بطريقة غير سليمة، وربما ينقلب هؤلاء عليكم ويهددون أمنكم واستقراركم. وقال الشيخ صباح أيضا: إن معظم الذين تحتضنونهم في لندن ليسوا دعاة حقيقيين للديمقراطية وحقوق الإنسان، وليسوا أيضا معارضة ذات مطالب مشروعة، وإنما جماعات مأجورة تعمل لصالح جهات ومنظمات مشبوهة.

وكان رد جون ميجور على ما أثاره الشيخ صباح الأحمد، هو أن بريطانيا ملزمة بالدفاع عن الحريات ودعم حقوق الإنسان، وأن سياسة بريطانيا تجاه منح حق اللجوء السياسي لمن يلجأ إليها، هي سياسة قديمة تبنتها منذ قرون ولا يمكنها التراجع عنها.

وقد عادت الذاكرة إلى هذه الواقعة بعد التفجيرات التي تعرضت لها العاصمة البريطانية في السابع، والواحد والعشرين من شهر يوليو الماضي، وبرز إلى السطح مرة أخرى موضوع الجماعات والأفراد الذين تفتح لهم بريطانيا ذراعيها، ثم ينقلبون عليها وينشرون الفزع والدمار.

وما لبثت فكرة الخوض في هذا الموضوع أن تعززت بعد أن أعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عن مجموعة التصورات الخاصة بمواجهة الإرهاب، في المؤتمر الصحفي الدوري الأخير. ومن بين هذه التصورات ما أعلنه عن عزم الحكومة البريطانية على تعديل التفسيرات الخاصة للمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، وإعادة النظر ببعض التشريعات وإصدار أخرى جديدة لمكافحة الإرهاب، وتضييق الخناق على الأفراد والمنظمات والجمعيات التي تدعو للتطرف، إضافة إلى عقد محاكمات سرية للمتهمين في قضايا الإرهاب على غرار ما هو معمول به في فرنسا.

وقد انقسمت ردود الفعل في بريطانيا تجاه تصورات بلير ما بين مرحب ومعارض. فالفريق الأول وهو الأقل، يرى أن بريطانيا هي ملاذ المعارضين لحكوماتهم ومأوى لكل من يتعرض للقيد والقهر في بلاده وأي ضغوط سياسية.

أما الفريق الثاني وهو الفريق الغالب، فيرى أن لندن بدأت تدفع الثمن غاليا نظير سياستها المتساهلة تجاه المطاردين الذين هربوا من بلدانهم ونقلوا أنشطتهم إلى بريطانيا ولم يقف القانون حائلا ضد تجاوزاتهم . ويقول أنصار هذا الفريق أن هناك أمورا استجدت، ومشاكل تفاقمت من وراء هذه الجمعيات والمنظمات والداعين لها وأنه يجب وضع حد لذلك ولا بد من تشريعات جديدة لمواجهة دعاة التطرف والكراهية.

ومن أكثر مؤيدي الفريق الأول: الأفراد، والمنظمات، والجماعات التي عملت في الساحة البريطانية لسنوات طويلة مستغلة سقف الحريات في بريطانيا، لنشر الفكر المتطرف، وتحريض المواطنين على وطنهم، ونشر المغالطات والأكاذيب، فقد استشعر هؤلاء الأفراد والمنظمات أن أصابع الاتهام أصبحت موجهة إليهم وأن الشكوك تدور حولهم .

من المؤسف حقا أن الأجهزة البريطانية لم تستمع للنصائح التي قدمها أصدقاء بريطانيا، مثلما أشار لها الأمير تركي بن فيصل سفير المملكة العربية السعودية الجديد لدى واشنطن في أحاديثه الصحفية الأخيرة. فالأجهزة البريطانية لم تنتبه فعلا لما ينشر ويكتب في بعض المطبوعات والصحف التي تصدر في لندن وهي مؤشرات تؤكد على التطرف والتعبئة غير السلمية للرأي العام ضد السياسات التي تشكـل خطرا على مصالح هذه الجماعات والصحف وتضر أيضا بمصالح الجهات التي تمولها. وهنا أتذكر حديثا تلفزيونيا لرئيس تحرير إحدى الصحف الصفراء التي تكتظ بها لندن، يقول فيه متفاخرا إنه يأسف لأنه يحمل جواز سفر بريطانيا، وأنه ما كان سيلجأ لذلك لو أنه حصل على جواز سفر من أية دولة عربية. وسمعنا أيضا ما رددته شخصية أخرى تقيم في لندن وتتخذ من الدين ستارا لها وشعارا لأفكارها، من أن وجوده في لندن وحصوله على الجنسية البريطانية لا يعدو كونه مجرد قضاء حاجة مؤقتة كمن يذهب إلى التواليت !.

التفجيرات التي شهدتها العاصمة البريطانية في الشهر الماضي أكدت صحة ما قاله الشيخ صباح الأحمد، لجون ميجور منذ ثمانية أعوام وأيضا النصائح السعودية، فعلى مدار السنين استغلت التنظيمات والجماعات التي نزحت إلى لندن المناخ الديمقراطي والإنساني المتوفر من أجل بث سمومها واستقطاب الشباب وتعبئته ونشر الفكر المتطرف.

يُذكرنا هؤلاء وما يرددونه من تحفظات وانتقاد حول ما يجري في العراق وبلدان أخرى، وكذلك من أفكار متطرفة وشعارات جهادية زائفة، بما كان يردده صدام حسين في عام 1990 تبريرا لغزوه الكويت بأن تحرير فلسطين يمر من خلال بوابة الكويت !!.

بريطانيا ـ والعالم أجمع ـ مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى برصد وتحليل كافة الأنشطة والتحركات التي تتخذ من حق اللجوء السياسي وحقوق المواطنة ستارا لحجب نواياها، سواء الأنشطة التي تتخذ من الإسلام ذريعة لها أو تلك التي تستخدم الحريات الصحفية والإعلامية لنشر فكر متطرف. فالصحف المأجورة ـ مثلها مثل التنظيمات المتطرفة ـ لا يمكنها العمل دون مصدر تمويل، فإذا خلت مثل هذه الصحف من الإعلانات ـ وهو المصدر الأهم في مدخول واستمرار أي صحيفة ـ فهذا يعني أن ثمة جماعة أو منظمة تقوم بتمويل هذه الجرائد.

بريطانيا وأمريكا ودول الخليج أيضا مطالبة بتفحص ما يجري في المؤسسات التعليمية والساحة الإعلامية ومراكز العمل التطوعي، فمن الواضح أن ما يشهده العالم اليوم من أعمال إرهابية، ليس إلا نتاج مباشر لفكر وسلوك متطرف وأن منابع التطرف باتت واضحة.

* إعلامي كويتي