هل تعود الانقلابات العسكرية إلى العالم العربي مرة أخرى؟

TT

كنا في العالم العربي قد نسينا مسألة الانقلابات العسكرية أو كدنا، حتى ذكرنا بها وأعادها إلى الأذهان عسكر موريتانيا الذين نجحت محاولتهم الثالثة للإطاحة بنظام نواكشوط في الثالث من أغسطس (آب) الحالي. إذ منذ ستة عشر عاما ـ منذ الانقلاب الذي قاده الفريق عمر البشير في السودان عام 1989م ـ ظلت جبهة الأنظمة العربية ساكنة بغير حراك، في ظاهرها على الأقل، ولم تصادف أسماعنا مرة عبارة «البيان الأول»، إلا في المسلسلات والمسرحيات الهزلية، التي كانت مسرحية «الزعيم» لعادل إمام نموذجاً لها.

لم تشحب صورة الانقلابات العسكرية في أذهاننا فحسب، وإنما لم تعد محطاً للأمل أيضاً، بعد خبرة عقود أدركنا خلالها أن الانقلابات التي وقعت في العالم العربي لم يكن أغلبها خطى إلى الأمام، وإنما كانت في جوهرها تداولا للسلطة استخدم فيه السلاح، لإزاحة أنظمة فاسدة والاستبدال بها أنظمة أخرى اختلط فيها الفساد بالاستبداد. وتبين لنا بمضي الوقت أن ما انتظرناه لم يكن فجرا، وانما كان إطالة في عمر الليل البهيم. فلم تختلف الجمهوريات التي أطلت عن الملكيات التي أزيحت، ولم يعد عهد الاستقلال أفضل كثيراً من حكم الاحتلال. وحدث ما هو أكثر، إذ سعت بعض الجمهوريات إلى ارتداء لبوس واستعادة تقاليد الملكيات، من خلال الإصرار على احتكار السلطة وتوريث السلطة إلى الأبناء على سبيل المثال، حتى أطلق البعض على النظم التي جرى استيلادها على ذلك النحو وصف «الجملوكيات»!

لقد بدا أن صفحة الانقلابات العسكرية طويت، حتى تندر البعض قائلين بأن زمرة «الأبالسة» الذين كانوا يديرونها انصرفوا عنها واعتزلوا الدور، بعدما أدركوا أنه لم يعد في الإمكان أفضل ولا أبدع مما كان. غير أن عسكر موريتانيا فاجأونا بانقلابهم على حكم الرئيس السابق معاوية ولد سيد أحمد الطايع بعدما ظل قابضاً على السلطة لأكثر من عقدين من الزمان. وهو ما أثار تساؤلات عدة حول خلفيات وملابسات ما جرى، وكان أهم سؤال هو: لماذا جاءت موريتانيا استثناء على الوضع الذي جرى تسكينه في خرائط العالم العربي؟

قبل أن أجيب، لا يفوتني أن أسجل مفارقة أثارت الانتباه بعد نجاح الانقلاب في نواكشوط، تمثلت في الإعلان الأميركي الرسمي عن معارضة إقصاء ولد الطايع وإسقاط نظامه، بحجة أنه «رئيس منتخب». ونسي الأميركيون أن ولد الطايع لم يكن يختلف كثيراً عن الرئيس السابق صدام حسين ـ إلا في الدرجة فقط ـ حيث كان الرئيس العراقي السابق بدوره منتخباً بذات الطريقة «الديمقراطية» التي انتخب بها ولد الطايع، ومع ذلك، أباحت الإدارة الأميركية لنفسها إسقاط نظامه وتدمير بلده، في حين حرمت على الموريتانيين نفس الشيء، رغم أنهم اكتفوا بعزل ولد الطايع وتركوه يذهب حيث أراد، وكرموا أسرته وسمحوا لها بأن تلحق به.

حين يفكر المرء في التساؤلات المثارة، يجد أن تصور المعلومات المتاحة يمثل حائلا دون التوصل إلى إجابات حاسمة لها، من ثم فإنه يظل يتحرك في إطار الاجتهادات والترجيحات، التي يستعين فيها ببعض الخيوط التي تأتي في ثنايا التقارير الصحفية الخارجة من العاصمة الموريتانية.

لقد وجدت أن التقارير والتحليلات الصحفية التي تناولت الانقلاب أجمعت على أن نظام ولد الطايع كان استبدادياً وفاسداً، وأنه لجأ إلى قمع كل معارضيه والزج بهم في السجون، بتهم مختلفة تارة بتهمة تدبير مؤامرة على نظامه وتارة أخرى بإثارة النعرات الطائفية والقبلية، وكانت تهمة «الإرهاب» جاهزة لتسويغ اغتيال عشرات الناشطين الإسلاميين، وتقديمهم للمحاكمة. وعند كثيرين في العالم الغربي بوجه أخص، فإن انخراط ولد طايع في الحملة الأميركية ضد الإرهاب، بدا مسوغاً لانتفاء أي جرائم أخرى يرتكبها نظامه بحق الشعب الموريتاني وأي انتهاكات لحقوق الإنسان فيه.

لم أجد هذه الأسباب على وجاهتها كافية لإنجاح الانقلاب على ولد الطايع، لسبب جوهري هو أن التهم المنسوبة إليه شائعة في أنظمة عدة في العالم العربي، ومع ذلك فكل شيء فيها ساكن، ولم يطرأ عليها أي تغيير.

غير أن ما وجدته جديرا بالملاحظة والاعتبار في المشهد الموريتاني أن نظام ولد الطايع استفز الضمير العام في بلاده بصورة مهينة وجارحة، حين أقام علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وكان الوحيد من غير دول الطوق الذي جرؤ على اتخاذ هذه الخطوة، في حين فعلها آخرون بصورة غير مباشرة وعلى استحياء. وقد صدمت جرأته الرأي العام في موريتانيا على نحو لم يغفر له، الأمر الذي بدا دالا على أنه تجاهل تماماً مشاعر شعبه وداس عليها وتحداها بصورة فجة، في سعيه لتثبيت نظام حكمه الهش، اعتماداً على الدعم الأميركي الذي كانت إسرائيل بداية له.

وإذا كان الأمر قد مر بهدوء نسبي في العالم العربي، إلا أنه لم يكن كذلك في داخل موريتانيا. ذلك أن الذين يعرفون ذلك البلد يدركون أكثر من غيرهم مدى اعتزاز شعبه وتعلقه بانتمائه العربي والإسلامي. ومن أسف أن ظهور حفنة من المثقفين والسياسيين الفرانكوفونيين (المتغربين) على سطح الحياة العامة، حجب تلك الحقيقة المهمة أو ميعها. لكن أزعم أن غضب الشعب الموريتاني وسخطه على ولد طايع ونظامه، لم يكن سببه فقط ما مارسه من عسف واستبداد وانتهاك لحقوق الإنسان. وما أشاعه من فساد، وإنما كان له سبب آخر تمثل في إقدامه على اقامة علاقات مع إسرائيل، ولا أستبعد أن يكون هذا الموضوع بالذات من العوامل التي حركت محاولات الانقلاب المختلفة التي شهدتها موريتانيا في ظل حكم ولد الطايع. وهو ما سمعته أكثر من مرة من جانب بعض المثقفين الموريتانيين، ومنهم من قال لي ان الشعب الموريتاني كان الوحيد بين شعوب الأمة العربية الذي حاولت بعض شرائحه إسقاط النظام احتجاجا على تصالحه مع إسرائيل رغم ما تمارسه من احتلال وعدوان على الشعب الفلسطيني.

إذا كان موضوع العلاقة مع إسرائيل قد استفز الضمير الشعبي الموريتاني، إلا أنني لا أستطيع أن أقطع بأن ذلك ما دعا العسكر في هذه المرة الأخيرة إلى الانقلاب على ولد طايع، وان كان بوسعي أن أؤكد أن هذا الموضوع كان بين العوامل التي دفعت الموريتانيين إلى الحفاوة بإسقاط نظامه. ولست ممن يؤيدون فكرة استبعاد العامل الإسرائيلي من المشهد استناداً إلى واقعة اجتماع رئيس المجلس العسكري الجديد، العقيد أعلي ولد محمد فال، بعد توليه السلطة مباشرة، مع سفراء الدول الغربية وإسرائيل في نواكشوط. إذ أن ذلك يمكن أن يفهم باعتباره من مقتضيات الحكمة السياسية، ومتطلبات التمكين للوضع الجديد والاعتراف به على الساحة الدولية.

خلاصة ما أريد أن أقوله، ان الموضوع الإسرائيلي حاضر في المشهد لا ريب، بدرجة أو أخرى على صعيد النخبة العسكرية التي انقلبت على نظام ولد الطايع، وبدرجة كبيرة في حفاوة الرأي العام بإسقاط النظام.

لا تخفى في هذا السياق دلالة إقدام قادة النظام الجديد على تعيين نقيب المحامين والناشط في مجال حقوق الإنسان، محفوظ ولد بتاح، وزيرا للعدل. وتأكيدهم على إعادة الديمقراطية إلى البلاد خلال عامين، واطلاقهم سراح رموز التيار الإسلامي المعارضين الذين سبق اعتقالهم بزعم مكافحة الإرهاب، وتلك رسائل مهمة أشاعت قدراً كبيراً من الارتياح لدى الرأي العام الذي يتوقع أن تتواصل خطى الانفراج السياسي لتشمل بقية المعتقلين من عسكريين ومدنيين.

على أهمية ذلك كله، فإنني لست واثقاً تماماً من أنه بدوره يمثل تفسيراً كافياً للاستثناء الموريتاني، يقنعنا بأن نجاح الانقلاب ومن ثم الخروج من السرب، كان أمراً لا بديل عنه ولا مفر منه.

خطر على بالي أن يكون تواضع الأهمية الاستراتيجية لموريتانيا سبباً في غض الطرف عن التحولات الجارية فيها، ومن ثم «السماح» بنجاح الانقلاب العسكري، لكنني استبعدت ذلك الخاطر لأن موريتانيا بسبيلها إلى الدخول في طور إنتاج النفط والغاز بعد اكتشاف كميات كبيرة منه هناك، الأمر الذي يعزز من أهميتها، ويضيفها إلى دائرة الضوء ويضفي عليها مزيدا من الاهتمام الدولي.

خطر لي أخيراً خاطر مزعج نسبياً، أرجو أن يكون من قبيل الشطط في التحليل، وهو أن يكون «الأبالسة» الذين سبقت الإشارة إليهم قد قرروا معاودة نشاطهم في العالم العربي، ومهدوا لذلك باختبار قدرتهم في موريتانيا، وربما دفعهم إلى ذلك ان فرص التغيير في العالم العربي باتت محدودة للغاية أو منعدمة، وان الديمقراطية التي يلوح الأميركيون بها تمثل مغامرة غير مأمونة العاقبة، لأنها إذا كانت حقيقية ومعبرة بصدق عن مشاعر الناس، فسوف تأتي بعناصر رافضة للسياسة الأميركية ومعاونة لها، ومن ثم مهددة لصالحها. ولا حل لهذه العقدة سوى العودة إلى الاستعانة بالعسكر، الذين يحاولون توفير بعض الديمقراطية، ويعملون على رفع المظالم عن الناس، بما يخفف من حدة الاحتقان السياسي والفشل الاقتصادي.

وفي نفس الوقت فهؤلاء غالباً ما يكونون «مضمونين» أكثر من غيرهم. وبذلك يضرب «الأبالسة» عصفورين بحجر واحد، من ناحية يستجيبون لشوق الناس للتغيير حتى بات بعضهم يتمنى أي تغيير، ومن ناحية يضمنون استمرار «مصالحهم». وهو تحليل إذا صح فإنه يوحي بأننا لم نعد بعيدين عن العودة إلى مرحلة الانقلابات العسكرية باعتبارها آخر الدواء.

ليس عندي دليل على ما قلت، ولست أستبعد أن يكون ما ذهبت إليه من قبيل الشطط في التحليل، الذي هو من تجليات سوء الظن والشك في مسألة المؤامرة، أما إذا قال قائل ان الكلام متأثر بالارتفاع الشديد في درجة الحرارة خلال شهر أغسطس، وانه ربما كتب في وقت انقطاع التيار الكهربائي وتوقف أجهزة التكييف، فإنني سأتردد كثيرا في رد مقولته!