لماذا لا يقتل بعض الصينيين الناس في لندن؟

TT

من حسن الطالع أن صحيفة «الشرق الأوسط» تنشر دوما رسائل القراء، ومن بينها يوجد تعليق شائع هو أن الكاتب أحسن في تحليل وتشخيص المشكلات ولكنه فشل في تقديم علاج لها. ويعود ذلك في كثير منه ليس فقط لأن الكاتب لا يوجد لديه حل لمعضلة، أو أن هناك معضلات ليس لها خلاص، وإنما لأن المقال بطبعه يتعلق بالأحداث الجارية التي ما أن ينصب الباحث على واحدة منها، حتى تعاجله الدنيا بقضايا وموضوعات لا يستطيع تجاهلها. ومنذ أسابيع كان موضوع «الإرهاب» هو المسيطر على الساحة الفكرية بعد تفجيرات لندن، وقتل الدبلوماسيين في بغداد، والقتل الجماعي لسائحين ومصريين في شرم الشيخ. ولكن هذه الأحداث الجسام ما لبثت أن أخذت في التراجع بعد وفاة الملك فهد رحمه الله واتخاذ إسرائيل لإجراءات الانسحاب من غزة، ومصرع نائب رئيس الجمهورية السوداني جون جارانج، واستعداد المصريين لأول انتخابات رئاسية تنافسية. وهكذا كانت نتيجة الزمن أن تراجعت سيرة الإرهاب، ولم يبق منها إلا «التوابع» الخاصة بالمطاردات وإجراءات الوقاية القانونية والعملية التي تتخذها الدول.

ولكن بالنسبة للعالم العربي والإسلامي فإنه لا يمكن التعامل مع «الإرهاب» باعتباره واحدا من الأحداث، فلا توجد قضية تتقاطع عندها مصائر الشعوب العربية والإسلامية مثل خروج بعض من أبنائها لقتل الناس في العواصم والحواضر مشكلين خطرا حالا على التنمية السياسية والاقتصادية في بلادهم، وخالقين لحالة من التوتر والأزمة المزمنة في العلاقات مع بقية الدنيا. ولذلك فإن الموضوع لا بد وأن يظل حائزا على جزء مهم من الاهتمام العام، ولا يجري عليه الانتظار حتى تأتى الكارثة الجديدة ممثلة في عملية إرهابية لا نرى منها بعد قليل إلا دخانا ونارا ودماء. ويظل سؤال القارئ حول العلاج مشروعا طوال الوقت، ولكن ذلك لا يمكن الوصول إليه ما لم يتم الاستجلاء التام للقضية، والتقرير الواعي للوقائع المتعلقة بها، والتحري عن الآراء المعتبرة فيها.

ومن بين الأساليب التي تساعد في فهم موضوعات مختلفة يوجد «الأسلوب المقارن» بمعنى البحث في الكيفية التي تتعامل بها جماعات مختلفة في أزمنة مختلفة مع قضية واحدة أو مع قضايا متشابهة. وبالطبع فإنه مفهوم في كل الأحوال أن القياس هو دائما مع الفارق، وأنه لا توجد أبدا في الموضوعات الإنسانية حالات متطابقة في الظروف والبشر. وفي موضوع الإرهاب تحديدا فإن تحرير المسألة يؤدي بنا إلى وجود مدرستين: واحدة تقول إن الظروف الجارية في فلسطين والعراق، والتاريخ الاستعماري، والهيمنة الغربية الطاغية، تولد حالة من الغضب في العالم الإسلامي إلى الدرجة تدفع بعضا منه إلى القيام بالعمليات الإرهابية. والمدرسة الأخرى تقول إن هناك طائفة فاشية بعينها ونتيجة معتقداتها هي التي تندفع وراء هذه العمليات من أجل تغيير شكل المجتمعات التي تعيش فيها أو حتى توجد في العالم. هنا فإن الفرق «الناجية من النار» الجهادية الإسلامية لا تختلف كثيرا عن الجماعات الفاشية والنازية والشيوعية والشمولية بوجه عام والتي كان لديها صورة أخرى للمجتمع والعالم تريد خلقها وتشكيلها.

المدرسة الأولى لا يمكن اختبارها إلا بالدراسات المقارنة لفحص ما فعلته أمم وشعوب أخرى واجهت حالات من الانسحاق التاريخي أمام المستعمر الغربي، وعما إذا كان ذلك قد قاد إلى حالة من الحالات الإرهابية المعروفة لدينا. والحالة الصينية حالة جديرة بالدراسة والتأمل، فمساحة الصين تماثل تقريبا مساحة العالم العربي، كما أن عدد سكانها يماثل تقريبا كل العالم الإسلامي، ومن الناحية الحضارية فإن الحضارة الصينية واحدة من حضارات الدنيا العظمى. وفي وقت من الأوقات غير البعيدة ـ قبل أقل من قرن ونصف القرن ـ كان الاعتقاد السائد في «المملكة الوسطى» أنها مركز العالم وأن أهلها هم خير أمة أخرجت للناس. ومنذ قرون قليلة كان عجبا كبيرا في «المنطقة المحرمة» في بكين أن يطلب مواطن بريطاني، مقابلة إمبراطور الصين وهو القادم من جزيرة صغيرة جدا تقع على أطراف الدنيا، ولا تملك موارد طبيعية تذكر، وحتى تحكمها امرأة!.

ولكن كل ذلك انهار تماما مع العقد الرابع من القرن التاسع عشر عندما استبدت الديون بشركة الهند الشرقية نتيجة العجز الهائل في الميزان التجاري بين الصين وبريطانيا; وحتى تعدل الميزان كان الحل ـ كما هو معروف ـ تصدير الأفيون إلى المملكة الوسطى، وتحويل شعبها إلى أمة من المدمنين. وعندما انتفضت الصين للدفاع عن نفسها من خلال ما عرف بحرب الأفيون ـ 1839 ـ 1842 ـ كانت الهزيمة ساحقة ومهينة ومذلة. ولم يكن ذلك إلا بداية المهانة التي وضعت النظام الإمبراطوري الصيني كله على طريق النهاية، وهو بالنسبة للصين لم يكن ليختلف كثيرا عن نظام الخلافة الإسلامي الذي لم يقدر له الانهيار إلا بعد هزيمة مماثلة للدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. ومن يطلع على معاهدة نانكنج التي أنهت الحرب، سوف يجد أنها ربما لا تختلف كثيرا عن المعاهدة التي فرضتها الدول الاستعمارية على محمد علي الكبير في مصر قبل ذلك بعامين، بل يمكن القول انها مثلت إهانة أكبر حيث أعطت المواطنين البريطانيين حق الامتثال فقط للقانون الإنجليزي في الجرائم التي يرتكبونها على الأرض الصينية. وفوق ذلك سلمت الصين خمسة موانئ ـ كانتون وشنغهاي وفوتشو وننجبو وآموي ـ لسيطرة بريطانيا التي حصلت على حقوق الدولة الأولى بالرعاية، ومع دخول الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا إلى الصورة كانت الصين قد تم تقسيمها بين مناطق متعددة للنفوذ الغربي.

كل ذلك بالتأكيد شائع ومعروف، ونتيجة السيطرة الغربية على الصين تم شحن أعداد هائلة من الصينيين إلى أمريكا الشمالية، للعمل في ظروف لا تختلف عن تلك التي عاش فيها العبيد الأفارقة الذين تميزوا بأن قصتهم ومآسيهم قد باتت معروفة. ونتيجة معاهدة 1942 تم فصل جزيرة هونج كونج والجزر الصغيرة القريبة منها ثم أضيفت لها كولون في 1869 وما سمي بالأراضي الجديدة عام 1898. ولم يأت عام 1860 حتى كانت الصين مجبرة تماما على إباحة الأفيون والسماح الكامل وبصورة مطلقة لنشر الديانة المسيحية في الدولة الكونفوشية. وبعد قرن من هذا الزمان القاسي كانت هونج كونج لا تزال تابعة لبريطانيا، أما مكاو فقد كانت تابعة للبرتغال، أما «الصين الوطنية» فقد انفصلت بسبب الهيمنة الأمريكية بجزيرة فرموزا وتوابعها عن الدولة الأم.

بعض من هذا قد جرى للعالم العربي والإسلامي، ولكن بعضه الآخر لم يحدث، ولا يوجد في التاريخ العربي الدامي مع العالم الغربي ما يقابل حالة «الأفيون» ولا «العبودية»، ومع ذلك كانت الإجابة الصينية مختلفة تماما في التعامل مع التحدي الغربي، فلم يكن الحل قتل الناس في لندن أو غيرها وإنما باكتساب عناصر القوة الحديثة في العلم والتكنولوجيا وخلق علاقات مع الغرب لا تجعل ـ بسبب المظالم ـ قتل الغربيين ومعهم عرب ومسلمون نوعا من أنواع «المقاومة»!.