العراق.. ليت الشيعة استمعوا لوصية الشيخ شمس الدين..!

TT

أحب الشيخ محمد مهدي شمس الدين (ت2001) المسيحي قبل المسلم، والسُنَّي قبل الشيعي. فالرجل عكس ببساطته الروحية، وعمقه الفكري حقيقة الدين المفارقة للتحزب. وبهذا تفوق على أقران له من علماء الدين، رغم حظوتهم من الأتباع والشهرة في الإعلام، لأنه لم يسع إلى أن يكون أباً روحياً لحزب أو منظمة، بل كان يتحرك ضمن ما تملي عليه أممية الإسلام ووطنية المسلم. وقبل وفاته بأسبوعين أوصى الشيخ أبناء طائفته الشيعة أن لا يدفعهم الطارئ السياسي إلى الانغلاق على أنفسهم.

أوصى عبر شريط مسجل وهو يناضل المرض، ولم يكن يهجر بل كان بكل قواه العقلية: «أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أوطانهم. وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص. وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم» (الوصايا، تقديم غسان توينبي، دار النهار). لم يطمئن الشيخ لاندفاع النخب الشيعية إلى تأسيس الأحزاب والمنظمات، وتفرقها إلى كيانات وصلت بالعراق إلى حد التصادم، وكلها تتحدث برفع المظلومية عن الشيعية، وكأنهم أقلية تخشى من التهميش أو التغييب. لبستهم المخاوف المزمنة، والإدمان على عرض المظلومية، من دون الفصل بين طقس عاشوراء السنوي وواقع الحال. يمارسون الانكسار حتى وإن أصبحوا أغلبية في الجمعية الوطنية، وبيدهم زعامة البلاد، ولا ندري ممَنْ تطلب السلطة حقوقها، وهي التي تهب الحقوق! وتعلم قبل غيرها أن صياغة دستور وطني خالص يضمن حقوق الأقلية فما بالك بالأكثرية، بلا مذهب رسمي وآخر ثانوي.

وصلت الفِرقة الحزبية الدينية الشيعية مداها بمدينة البصرة. هناك: حزب الفضيلة، وجماعة الفضلاء، ومنظمة ثأر الله، وحزب الله، وشهداء الانتفاضة، ومنظمة سيد الشهداء، وحركة 17 مارس، وحزب الدعوة تنظيم العراق، وجماعات الصدر على مختلف مشاربهم، وفرع شهيد المحراب وغيرها، ناهيك عن الأحزاب التي انتقلت إلى العراق بعد سقوط النظام مباشرة، والباب ما زال مفتوحاً لظهور تنظيمات أخرى.

حدث كل هذا التحزب أوان وجود الشيعة في السلطة. وهنا تأتي واقعية تحذير الشيخ شمس الدين من عاقبة هذا التحزب، وأثره السلبي على عوام الشيعة المتحملين الإيذاء قبل غيرهم من العراقيين الآخرين في جنوب العراق ووسطه. قال الشيخ، من قبل أن يشهد فظاعة الحال: «هذه التكوينات ـ بحسب رصدنا لما آلت إليه ـ لم تؤد إلى أية نتيجة تُذكر، بل أدت إلى كثير من الأزمات، وعمقت الخوف والحذر، وسوء الظن والتربص في أنفس بقية المسلمين في المجتمع من خصوص طائفة الشيعة، وسعت نحو عزلهم بشكل أو بآخر عن الحياة العامة، وعن التفاعل مع نظام المصالح العامة».

هناك أكثر من محذور وقعت في شراكه الحزبية الشيعية العراقية، فهي إن ظهرت على أساس الدفاع عن الهوية الإسلامية، أو تحت غطاء الدفاع عن الإسلام بعد ثورة 14 تموز، تحولت مع الأيام إلى الدفاع عن حقوق الشيعة فحسب، بينما لم يشهد العراق فترة ألغيت فيها الطائفية، وعطل أي تمايز بين العراقيين على أساس المذهب والدين والقومية مثل الفترة التي انتفضت فيها المرجعية الدينية ضد الدولة. وقد أجازت المرجعية حينها العمل الحزبي المعارض بحدود، بعد ممانعة طويلة. كان الدافع الأساس هو إصدار قانونيَّ «الأحوال الشخصية» و«الإصلاح الزراعي». بمعنى آخر أن تأسيس الحزبية الشيعية جاءت ردة فعل لا فعل طبيعي. فلو ألغى عبد الكريم قاسم القانونيَّن المذكورين لما كان هناك تأييد مرجعي للعمل الحزبي الشيعي.

الأمر الذي قد يتناساه قادة الأحزاب الشيعية، وهو أن ذاكرة المهجرين والمنفيين بإيران ما زالت محملة بما جرى لهم هناك من عوز وفاقة، جعلهم يرمون أنفسهم في أحضان المهربين الباردة، ويغرق المئات منهم في عرض البحار، وقصة تايتنك العراقيين ما زالت حية في الذاكرة. هنا ظهرت مظلومية أخرى شيعية ـ شيعية، ربما أنست العديد من الشيعة المظلومية التقليدية، وليس غريباً أن يتظاهر شباب بكربلاء، وهي عقر دار رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري وأحزاب شيعية، وهم يهتفون: «لا للجعفري ولا للحكيم رجعونا ... القديم). وربما العديد من الذين أعطوا أصواتهم للأحزاب الدينية لا يكررونها مرة أخرى».

أقول كل هذا حدث ويحدث لأن الأحزاب الدينية الشيعية لم تنجح في اللعبة السياسية، جاءت تصرفاتها ردة فعل للتاريخ الطائفي، بدلاً من تحقيق مشروع عراقي يلغي الطائفية من الأساس لا تترك للطرف الآخر أخذ دور المظلوم. ناشد الشيخ شمس الدين الشيعة العراقيين المعارضين، وهم الآن في السلطة، بالقول: «نعم، أقول للقوى الشيعية العراقية المعارضة التي تبحث عن مخرج، أنه لا يجوز أن تجد مخرجاً شيعياً، أن تبحث عن مخرج شيعي. لأن هذا يضر أكثر مما ينفع. ولا يجوز أن تبحث عن مخرج لا ينسجم مع توجهات المحيط العربي حول العراق. ولا يجوز أن تبحث عن مخرج يتهم الشيعة العراقيين بأنهم ملحقون بدولة أخرى». ولا يبدو الشيخ غريباً عن الواقع العراقي إذا علمنا أنه ولد بالعراق (1936)، ودرس بالنجف، وشب فيها، ولم يغادرها إلا بعد أكثر من ثلاثة عقود (1969) قضاها مختلطاً بالهم الشيعي العراقي.

وقبل هذه الوصايا بسنوات حذر الشيخ شمس الدين، بحكمته المعهودة، إسلاميي الجزائر من التباهي بالأكثرية، وكثرة الأصوات في الانتخابات، فعليهم أن يحسبوا حساب الزمن، وموقع الدولة الدينية فيه، وأن لا يلعبوا الديمقراطية لعبة موقتة من أجل الوصول إلى السلطة. فحسب الشيخ اللبناني أيضاً عبد الله العلايلي «الحق لم يعد ينال بالتصويت الغبي». فإسلاميو الجزائر أخذوا يلوحون بحجاب النساء، وأسلمة المجتمع، وهو المعروف عنه الانفتاح مع التدين المرن. ليت الأحزاب الدينية العراقية الشيعية استفادت من وصية محب تتلمذ للسيد محسن حكيم والسيد أبي القاسم الخوئي وزامل محمد باقر الصدر، وعدَ العراق وطنه الثاني بعد لبنان.