حكاية طائرتين وبلدين

TT

افتقد قبرص واشتاق اليها. لقد كرهها اللبنانيون الذين لجأوا اليها بعشرات الآلاف، لأنها بلد لا يسمح لأحد بمخالفة القانون، ولأن كل مواطن شرطي. وذات مرة شتم ابن احد زملائنا الجزيرة فجرى ترحيله في اليوم التالي. وعندما حاول التوسط لدى مجموعة من الوزراء كان الجواب واحداً من الجميع: لا نجرؤ على المراجعة في امر شاب شتم بلدنا!

يحب القبرصي بلاده ويقاتل من اجلها. وذات يوم وقف فلاحو هذه الجزيرة الصغيرة في وجه بريطانيا امبراطورية الجزر. وظلوا يقاتلون حتى استقلوا. وعندما ذهبت الى قرى قادة المقاومة لأتفرج على «ارض المعارك» وجدت جلولاً بسيطة وكروماً جميلة وساحات رملية صغيرة وبيوتاً غاية في البساطة وتماثيل متواضعة لبطل المقاومة جورج غريفاس. لا يستعبد بلد يحبه ابناؤه.

مشكلة الشركة التي تملك الطائرة التي سقطت في اليم، ان الضحايا قبارصة جميعاً. لا يغفر القبرصيون لمن يقتل ابناءهم. والجريمة اكبر هنا لأن صاحب الشركة المهملة قبرصي ايضاً. ولذلك اوقف فوراً عن العمل. وقد عقد مؤتمراً صحافياً ينفي فيه ان للطائرة المنكوبة تاريخاً من الأعطال. وذكرني ذلك بصناعة النفي في لبنان. المرتكبون ينفون. والمجرمون ينفون. والسارقون ينفون: لا. لم وليس وابداً وذكَّرني ايضاً بأننا فقدنا 133 لبنانياً في طائرة مؤجرة سقطت وهي تقلع من كوتونو عاصمة بنين متجهة الى بيروت. كانت تلك الطائرة قبراً متنقلاً. ولها تاريخ رديء في الأعطال وتبييض الأموال. وقبل الاقلاع شكا طيارها الليبي من ان الحمولة زائدة كثيراً وبعض الركاب في مقصورة القيادة. لكن اصحاب الشركة قالوا له اقلع. والمطار مطار افريقي في اي حال. حدث ذلك العام 2003. والى الآن لم يتلق اهل الضحايا سوى النفي. والقضاء اللبناني لم يبلغنا شيئاً.

والناس نائمة لأنهم ليسوا قبارصة ولا يعرفون معنى الواجب الوطني والأخلاق الوطنية. 133 قتيلاً ولا تحقيق ولو صوريا بعد عامين. في حين هز مقتل 125 قبرصياً العالم اجمع. وأغلقت الشركة المسؤولة. ولن ينام القبارصة على وسادة من 125 جثة. اما نحن فعندما قيل ان للشركة علاقة ببعض المسؤولين، ذهب كل منا الى بيته ونام. ففي لبنان قاعدة عامة لا يمكن ان تخطئ، وهي ان الحق دائماً على القتيل وعلى الضحية. وينتهي كل شيء ببيان نفي كاذب ووقح. وتذهب الفضائح الى القضاء حيث النوم شعار الصمت زين والسكوت سلامة. ويختلف اللبنانيون اليوم خلافاً مضرياً حول تعيينات المجلس الدستوري والمجلس العدلي. والخلاف طبعاً ليس حول جدوى المجلسين او ضرورتهما، بل حول التعيينات. لا اكثر ولا اقل. او بالأحرى، كالعادة، اقل! اننا لا نبعد عن قبرص اكثر من 125 كيلومتراً. ومع ذلك العدوى لا تصل.