سيطرة عامل تدمير الذات على الأطراف العراقية

TT

باءت كل محاولات السفير الأميركي لدى العراق زلماي خليل زاد بالفشل، لدفع العراقيين نحو الاتفاق على إصدار مسودة الدستور مساء الاثنين الماضي كما كان مفترضاً بعد تأجيله عن موعده السابق وكان شهر اكتوبر (تشرين الاول) الماضي. امضى خليل زاد الأسبوع الماضي يتوسط بين المجموعات العراقية الثلاث، مؤكداً لها أن تمديد التوقيت النهائي ليس بالخيار الجدي. كان ينطلق من تعليمات لديه بأن واشنطن لن تقبل بذلك، لأنه يعني عرقلة لبرنامج الانسحابات العسكرية الأميركية. لكن وقع التأجيل في نفس اليوم الذي كانت صدرت فيه «واشنطن بوست» الأميركية مشككة باحتمال تحقيق الولايات المتحدة اهدافها في العراق وهي الديمقراطية، وحماية ضخ النفط، وتوفير الأمن للعراقيين. كما ان التأجيل جاء في وقت تضاعفت فيه ضغوط القادة العسكريين على المسؤولين السياسيين في البيت الأبيض بضرورة وضع استراتيجية للخروج.

وإذا راجعنا عدداً من تصريحات القادة العراقيين التي أدلوا بها يوم الأحد الماضي، يتبين ان المشاكل التي أخرت كتابة مسودة الدستور، لاسيما الاجتماعية منها، معقدة وتحتاج الى أكثر من أسبوع للاتفاق عليها، وكم سيكون الأمر مهيناً لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش، إذا نجح المتشددون الذين يحكمون العراق بعد صدام حسين، في «القضاء» على كافة حقوق المرأة العراقية، حتى ابسطها بعدما كان دستور السبعينات الذي وضعه حكم صدام حسين جعلها متساوية الحقوق مع الرجل، وأفسح لها المجال لتتبوأ اعلى المراكز فكانت منهن عالمة الذرة، والباحثة، والشاعرة والرسامة، بعض هؤلاء النسوة سجينات في معتقلات أميركية في العراق رغم ثبوت عدم امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وبعضهن قُتل سابقا في غارات أميركية على العراق، وجاء الآن المستقوون بأميركا يريدون حرمانها من حقوقها بعد كل هذه المعاناة، ويرغبون لو استطاعوا الحجر عليها نهائياً وتثبيت ذلك في دستور ترغب واشنطن في التخلص من عبئه حتى ولو كانت ضحيته المرأة العراقية. وتشارك بريطانيا في تحمل مسؤولية محاولة إعادة المرأة العراقية الى زمن العصور الوسطى، إذ أن قواتها في جنوب العراق، سمحت لميليشيا مقتدى الصدر بتعقب النساء ومضايقتهن، ومنعهن من الخروج منازلهن إلا محجبات، وأقدم افرادها على ضرب جامعيات شابات وتمزيق ثياب إحداهن والتقاط صور لها بعد ذلك، من أجل التشهير بها، فأقدمت على الانتحار، وحجة القوات البريطانية ان ميليشيا مقتدى الصدر تساهم معها في تثبيت الأمن في البصرة، كما ان الأطراف الأخرى لا تعترض، لأن هذا ما ترغب فيه.

ثلاث قضايا أدت الى التأجيل: حقوق المرأة والفيدرالية ودور الدين. ولولا اشتداد الخلاف بين ممثلي الاطراف، لكان السفير الأميركي في العراق مستعدا، لا بل يشجع على عرض مسودة الدستور على البرلمان المؤقت من دون موافقة السنّة على كل بنوده، على أساس أن الشيعة والأكراد يشغلون معاً 221 من أصل 275 مقعداً في البرلمان، وبالتالي تتم المصادقة على المسودة بالأغلبية المطلوبة. وقد اكتشف خليل زاد أن السنّة يمكنهم إسقاط الدستور أثناء الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر (تشرين الاول)، لأنهم يشكلون الأغلبية في أربع محافظات، ويكفي أن يرفض الدستور ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات فقط ليسقط.

إن السرعة التي تطورت فيها الأحداث الاسبوع الماضي، جعلت السنة العرب يشعرون بأن موافقتهم على الدستور، ستترجم قبولاً منهم بتقطيع العراق وتهميشهم. وكان الحدث الأبرز، ليس مطالبة الزعيم الكردي مسعود البرزاني بنسبة 65% من عائدات نفط مدينة كركوك، طالما أن مصيرها لم يُحسم بعد، ورفض الشيعة الفوري لهذا الاقتراح. لقد كان الحدث الأبرز إعلان زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عبد العزيز الحكيم، انه اذا كان الأكراد سينالون حصتهم في الشمال عبر دولة فيدرالية، فإن الشيعة يجب ان يأخذوا حقهم في الجنوب. لقد جاء إعلان الحكيم هذا بعد اجتماع مطول عقده مع آية الله علي السيستاني، مما يعني أن السيستاني الزعيم الشيعي الاول في العراق، لا يعترض على هذا الاقتراح.

أما لماذا يوافق السيستاني على مثل هذا الاقتراح الجذري، بعدما عارض في السابق فكرة الفيدرالية؟ يعتقد أحد ابرز المتابعين للوضع العراقي، ان الحكيم يمكن أن يكون أقنع السيستاني، بأن الأكراد والأميركيين سوف يقنعون السنّة، مقابل وعود، بالموافقة على حكومة عراقية مدنية، او بأن يكون الإسلام أحد مصادر التشريع، وهذا ما يرفضه بقوة السيستاني، لأنه يريد أن يكون الإسلام المصدر الوحيد. ويضيف محدثي، أن الشيعة يريدون حكماً ذاتياً في الجنوب ليتأكدوا بذلك من ان الإسلام سيكون المصدر الوحيد للحكم، على الأقل في إقليمهم.

بعد التأجيل، ومع استبعاد التوصل الى حلول حاسمة، هناك احتمال بتأجيل قضية الفيدرالية، ونوعية الحكم الى البرلمان المقبل، فهذا يمهد لتمرير الدستور في البرلمان وبعده عبر الاستفتاء. يمكن للسنّة الموافقة على هذا الطرح، لأنهم يسعون الى تحقيق وجود أكبر في البرلمان المقبل الذي سيُنتخب أعضاؤه في 15 ديسمبر (كانون الاول) المقبل. هذا يعني ان مسودة الدستور المنتظرة ستدور حول برنامج عام، وأن البرلمان المقبل سيمضي وقتاً طويلاً في إدخال تعديلات عليه، لمعالجة القضايا الشائكة، كدور الإسلام في الحياة العامة، وحقوق المرأة، ومناطق الحكم الذاتي الكردية والشيعية، وتوزيع عائدات النفط، ووضع السنّة كمجموعة أقلية.

يشعر الشيعة أن هامش المناورة لديهم اوسع على حساب السنّة والأكراد. فهم يلتقون مع السنّة مثلاً بالنسبة الى دور الدين في الحياة العامة، وفي ما يتعلق بالفيدرالية، فإن الأكراد يدعمونهم، والشيعة كما يبدو يستعدون لأسوا الاحتمالات، أي انهيار العراق ككيان لدولة موّحدة. وليس مصادفة أن يأتي طلبهم لحكم ذاتي في الجنوب، بعدما ذُكر أن الأكراد يدرسون فعلاً الاستقلال التام.

لا احد يعرف الحالة التي يتطور باتجاهها العراق، هناك عملية مستمرة تأخذ اشكالاً مختلفة، منها البشعة، ومنها الدموية، كما ان هناك الشكل السياسي الذي منذ فترة، يكشف عن ملامح غير مريحة، ذلك ان تصرفات الشيعة والأكراد والسنّة تحمل علامات التدمير الذاتي وخلال فترة وجيزة. وإعلان عبد العزيز الحكيم أحد هذه المظاهر، وكذلك إصرار المشرعين الأكراد على أن يتضمن الدستور المؤقت إشارة الى استقلال الأكراد لاحقاً.

إن خسارة الأكراد والشيعة ستكون كبيرة جداً، اذا ما فشلت المساومات السياسية حول الدستور، ولا بد أن الولايات المتحدة اكتشفت انها مقبلة على مفاجآت كثيرة، وان الإطاحة بالأنظمة قد تكون أسهل بكثير من نشر الديمقراطية، ذلك أن العملية الديمقراطية التي وفرتها للأطراف العراقية، بدأت تفرز هناك قوى تميل الى تدمير الذات، إذا لم تستطع التحكم بالآخرين.