مأزق الإصلاح من البوابة العراقية

TT

يذهب وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إلى القول في مقاله الأخير حول الدروس المستخلصة من إعلان القوات الأميركية انسحابها الجزئي من العراق بعد قيام حكومة دستورية فيه في ديسمبر القادم (واشنطن بوست 12 أغسطس)، أن هذا الانسحاب المتوقع قد يكون هزيمة سياسية واستراتيجية فظيعة للولايات المتحدة في مسرح حربها على التطرف والإرهاب في الشرق الأوسط.

ويخلص كيسنجر بعد مقارنة مطولة بين الوضع العراقي والوضع الفيتنامي في الستينات، إلى أن النصر العسكري الأميركي مرهون بتوفر عاملين أساسيين هما من جهة التأييد الداخلي ومن جهة أخرى توفير الأرضية الدولية الملائمة لاحتضان العراق الجديد.

بيد أن المشكل الأكبر الذي يحول دون نجاح المشروع الأميركي لإعادة بناء العراق الجديد يكمن بالنسبة لكيسنجر في إخفاق سلطة الاحتلال في بناء جيش عراقي موحد يجسد هوية البلد في تنوعه القومي والطائفي، مما ينذر باندلاع حرب أهلية مدمرة على خلفية الانقسامات الحادة المذكورة.

وسينجر الخطر الأكبر لو أفضى مسار التحول إلى قيام دولة دينية متطرفة سواء في بغداد أو في إحدى مناطق العراق الأخرى، باعتبار أن خلفية الحرب الأميركية في العراق و«مشروعيتها» تتحددان بالحيلولة دون تفاقم هذا الخطر الديني.

ويعكس مقال كيسنجر ـ الذي كان من أبرز مؤيدي حرب العراق الأخيرة ـ حالة من القلق والإحباط إزاء المشاكل والمصاعب المتنامية التي تواجه قوات الاحتلال في العراق، في مرحلة يمر المسار السياسي الانتقالي بمأزق حقيقي، يتعلق بالقضايا المحورية ذات الصلة بشكل الدولة الجديدة مثل موضوع الفيدرالية، وعلاقة الدين بالدولة، وهوية البلد ودور المرجعية الشيعية.

ومن الواضح في ضوء هذه التحديات العصية، أن الطموح الأميركي في العراق قد تقلص من هدف بناء النموذج الديمقراطي المستقر القابل للاحتذاء والتصدير إلى المنطقة، إلى حفظ وحدة العراق ولو في صيغة هشة، وضمان الحد الأدنى من المصالح الحيوية الأميركية في هذا البلد المحوري في الدائرة الشرق الأوسطية.

ومن المعروف أن المشروع الأميركي في العراق قد برز في إطار مقاربة جديدة شاملة لإصلاح المنطقة، عبَّر عنها أركان الإدارة الأميركية وفي مقدمتهم الرئيس بوش في صيغ عديدة تمحورت حول ثلاثة رهانات أساسية هي:

* الإصلاح الديني والثقافي الشامل لتقويض الجذور الفكرية والروحية للتطرف والإرهاب، وتأهيل الثقافة العربية الإسلامية لاستيعاب قيم التحديث.

* الإصلاح السياسي بإنهاء حالة الاستبداد والأحادية، والانفتاح على قوى المعارضة وتشكيلات المجتمع المدني في اتجاه بناء أنظمة ديمقراطية تعددية حقيقية في المنطقة.

* الإصلاح الاقتصادي والمالي لدمج البلدان الشرق أوسطية الغنية بالبترول في منظومة العولمة، عبر الشراكة الفاعلة مع الولايات المتحدة، التي ستسمح بتطوير القاعدة التقنية لاقتصادات الدول الشرق أوسطية، كما ستمكنها من الاستفادة من إمكانات وفرص السوق الدولية المندمجة.

وقد أريد بالنموذج العراقي أن يكون أرضية اختبار للأهداف الثلاثة، في سياق المنظور الإقليمي الشامل، رهانا على نخبته العلمانية التحديثية المتصالحة مع المرجعية الدينية في تكريس إصلاحية إسلامية معتدلة، وعلى تشكيلاته السياسية والأهلية في بناء نموذج ديمقراطي تعددي يجمع بين ضمان الحريات السياسية وحماية التنوع القومي والديني، وعلى إمكاناته الاقتصادية الهائلة في بناء اقتصاد مزدهر يكون قاعدة منظومة مندمجة مرتبطة بالمركز الأميركي.

وقد اعتبرت الدوائر الفكرية والاستراتيجية الأميركية أن المدخل العراقي سيكون حاسما في مدى القدرة على معالجة الإشكالات المحورية التي يطرحها مسار العلاقات بين الولايات المتحدة والفضاء العربي ـ الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر، وأهمها إشكاليتان مترابطتان هما:

أولا: ما هي الصيغة المثلى لمواجهة «الإرهاب الديني»؟ هل تكون بتشجيع قيم التحديث والعلمنة (كما يرى الجناح الليبرالي المتركز في صفوف الحزب الديمقراطي ونخبة التيار المحافظ التقليدي) أو بتحويل الصراع إلى داخل الخطاب الإسلامي نفسه لدفع جهود الإصلاح الذاتي وتكريس الفصل بين الاتجاهات المعتدلة والاتجاهات المتطرفة الراديكالية؟

ثانيا: ما هي الصيغة المثلى لدفع التحول الديمقراطي المنشود؟ هل تكون بتشجيع قلب أنظمة الحكم القائمة وإن كانت حليفة ما دامت فاسدة وعاجزة، حتى ولو كان الثمن هو الفوضى الشاملة (التي دعتها وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بالخلاقة)، أو تشجيع التحول المتدرج الواقعي عن طريق الضغط السياسي والاقتصادي لبناء واجهات سياسية مقبولة داخليا ودوليا تكون خطوة نوعية في اتجاه مسلك الديمقراطية التعددية الحقيقية؟

ومن الجلي أن مصاعب المخاض العراقي قد حالت دون حسم أي من الخيارات المذكورة، وهكذا تتأرجح إدارة الرئيس بوش بين الخطاب الثوري الحماسي المنادي بفرض العلمنة والإصلاح الديني في العالم الإسلامي ونشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان فيه ولو بالقوة، وبين خطاب واقعي خافت يكتفي بالمطالبة بالإصلاح الفكري والسياسي دون تعيين مضامينه ولا تحديد سقفه.

وينعكس هذا الموقف المتذبذب في تعامل الإدارة الأميركية مع الأزمات والملفات الساخنة في المنطقة: تشجع مطالب الإصلاحيين في مصر وتتخوف من نتائج الإصلاح على مصالحها الحيوية وعلى طبيعة النموذج المجتمعي الذي تنشده في المنطقة، كما تشجع الإصلاح السياسي في منطقة تحكم السلطة الفلسطينية وتتخوف أن يؤدي إلى صعود المقاومة الإسلامية التي تنعتها بالإرهاب، والمشهد نفسه قائم في السودان ولبنان وسوريا بخلفيات مغايرة.

وما كشف عنه الدرس العراقي هو أن الرهان على التدخل الخارجي لحل الأزمات الداخلية وفك الاحتقان السياسي رهان خاسر، لما يفضي إليه من اشتباك بين متطلبات التحرر الوطني ومقتضيات التحرر السياسي، خصوصا في مناطق التنوع العرقي والثقافي حيث تنشأ احتمالات تقوي الأطراف المتنازعة بالحماية الخارجية لحسم الإشكالات الخلافية التي هي مصدر الأزمة الأصلية، مما يفضي للفتنة المعممة والصراع الأهلي الشامل.

ولعل الثغرة الأساسية في المشروع الأميركي لإصلاح المنطقة هو تحويل المطلب الإصلاحي نفسه ـ الذي هو حاجة حيوية، لا غنى عنها ـ إلى موضوع صدامي تحجبه رهانات واعتبارات العلاقات العربية ـ الأميركية المعقدة، التي لم يكن الإصلاح الثقافي والسياسي يوما بأحد اهتماماتها الرئيسية.