العراق .. لا لتأجيل الدستور الدائم ..!

TT

مع اقتراب موعد منتصف آب (أغسطس) وعجز أعضاء لجنة الدستور وممثلي الكتل عن الاتفاق على مسودته، وفي جو التخوف من ان يغرق سياسيونا في حساباتهم وصراعاتهم ويرهقون الوطن معهم، ظهرت بعض المقالات التي تدعو الى تأجيل كتابة الدستور وتمديد العمل بقانون ادارة الدولة لمدة أربع او خمس سنوات، بينما لا يسمح الوضع الحالي، في نظري، لا قانونياً ولا تقنياً ولا سياسياً بمثل هذا الاجراء. وأذكر من البداية أن هذه المقالة تهدف الى تعميق الحوار الموضوعي حول مسألة التأجيل وصعوبة تطبيق قانون ادارة الدولة لفترة سنوات اخرى. وذلك بعيداُ عن المواقف المسبقة والممارسات السياسوية، ان صح التعبير.

فمن الناحية القانونية وفي ما يتعلق بالفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية، حدد قانون ادارة الدولة (وهو بمثابة الدستور المؤقت) في الباب التاسع موعد 15 آب (أغسطس) لكتابة الدستور. وإذا لم تستكمل الجمعية الوطنية ذلك (وبدون طلب تمديد مسبق) فيجب عندئذ حل الجمعية الوطنية وانتخاب جمعية جديدة في مدة اقصاها 15 كانون الاول 2005 وستتسلم مهامها مع الحكومة الجديدة في موعد أقصاه 31 كانون الأول 2005 وسيكون عليها انجاز «وضع الدستور الدائم لمدة لا تتجاوز سنة واحدة»، أي مع نهاية 2006 (انظر المادة 61 بفقراتها أ ـ ز). لذلك لا يمكن الطلب بتأجيل الدستور وتمديد العمل بهذا القانون لسنوات اخرى، فقد حدد الجدول الزمني للوصول الى دستور دائم، ولا يمكن الاقدام على خرقه بهذا الشكل، ولا سيما ان ذلك سيدخلنا في الفراغ الدستوري، وهو طريق مسدود او مجهول النهايات على الأقل...

أما من الناحية التقنية فقانون ادارة الدولة يتضمن نقاط ضعف بل وتناقضات أشار اليها العديد من الكتاب، وقد انتجت هذه النواقص صعوبات تم تجاوزها بشكل او بآخر في الفترة الماضية، ولكن اعتماده لسنوات اخرى سيفتح الباب بما لا يقبل الشك لتطورات سلبية قد تكتسب خطورة كبيرة. وسأهتم اليوم بتشخيص التناقضات التي تمنع في رأيي من الدعوة لتبنيه اربع او خمس سنوات جديدة.

* يحدد قانون ادارة الدولة الحكومة الانتقالية بأنها تتألف «من الجمعية الوطنية ومجلس الرئاسة ومجلس الوزراء والسلطة القضائية» (المادة 24، فقرة أ)، أي انها مجمل السلطات العليا في الدولة. ولا أعرف كيف سمح كتاب هذا القانون لأنفسهم بتصور مثل هذه الحكومة (وبضمنها الجمعية الوطنية!!) وكيف يمكنها ان تنجز أعمالها. ورغم ان الحكومة تعني في الديمقراطيات المختلفة مجلس الوزراء الذي يدير امور البلاد، يقف نفس مجلس الوزراء في العراق وحسب قانون ادارة الدولة، ضمن طابور المؤسسات التي تمارس الحكم معه، ولا سيما مجلس الرئاسة الذي يشاطره كما سنرى بعض صلاحياته.. فرئيس الوزراء اذن محكوم بالشلل الجزئي بسبب الزامه بالتوافق مع مؤسسات أخرى. وفي نفس الوقت، فهو المسئول الذي يتلقى اكبر حصة من اللعنات لأنه رئيس الحكومة، بداهةً، ولكن واقع المؤسسات في العراق مخالف لهذا المبدأ البديهي.

* وضع مجلس الرئاسة: لا ينسجم وضع مجلس الرئاسة في هذا القانون مع كون النظام السياسي برلمانياً، بل يقترب من النظام الرئاسي للأسباب الآتية:

أ ـ منح قانون ادارة الدولة مجلس الرئاسة «حق نقض أي تشريع تصدره الجمعية الوطنية.. (عندها) يعاد التشريع الى الجمعية الوطنية التي لها ان تقر التشريع مجدداً بأغلبية الثلثين غير قابلة النقض خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوماً» (المادة 37)، وذلك رغم علوية الجمعية الوطنية على مجلس الرئاسة كونها منتخبة مباشرة من قبل الشعب.

ب ـ من جهة اخرى يمنح هذا القانون (المادة 39، الفقرة ج ثم المادة 44، فقرة هـ) مجلس الرئاسة سلطة تعيين اعضاء المحكمة الاتحادية العليا ورئيسها من بين مرشحين من قبل مجلس القضاء الاعلى ومن دون تدخل الحكومة ولا الجمعية الوطنية المنتخبة..!

ج ـ منح قانون ادارة الدولة مجلس الرئاسة، دون غيره، صلاحية «تسمية رئيس الوزراء بالاجماع» ولم يلزم هذا القانون مجلس الرئاسة حتى باختيار رئيس الوزراء من الأغلبية البرلمانية (المادة 38 فقرة أ) وما يعنيه ذلك من تسليط السيف على دور الاغلبية البرلمانية التي يمنحها النظام البرلماني حق تشكيل الحكومة. صحيح ان الدساتير لا تذكر هذا الأمر بالضرورة لأنها تذكر بالمقابل ضرورة حصول رئيس الوزراء المعين مصادقة البرلمان فاذن يجب ان يكون من الاغلبية الفائزة، وذلك في بلدان ذات تقاليد برلمانية عريقة. أما في الحالة الانتقالية فعدم ذكر كون رئيس الوزراء من الأغلبية الفائزة ثم اضافة ان الجمعية الوطنية تستطيع رفض رئيس الوزراء المعين من قبل مجلس الرئاسة، وعليها حينذاك انتخاب رئيس للحكومة بأغلبية الثلثين (نفس المادة 38) كل ذلك يجعل رئيس الوزراء بدون لون ويفتح الباب لاحتمالات الأزمة السياسية التي تم تداركها بعد الانتخابات الماضية، عقب عمليات الكر والفر والنقاشات المضنية للشعب قبل الطبقة السياسية. ورغم ان هذه التداولات تحصل في البرلمانيات المختلفة، لكن المقصود انها أخذت بعدأ خطيرا بسبب احكام هذا القانون الانتقالية التي ارادت فرض التوافق بأي ثمن. وحتى لا يحصل سوء فهم فأقول ان هذا كان جيداً لفترة انتقالية قصيرة، انما لا يصلح بالمرة للتطبيق سنوات اخرى عديدة، كما يطالب البعض.

النظام الفرنسي: ومن المفيد التذكير هنا بأن النظام الفرنسي ليس برلمانياً تماماً لوجود مسحة رئاسية تستند الى انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب ، وبغير ذلك لا يمكن تبرير وضع الرئيس الفرنسي. ومع أنه يقف كرئيس منتخب على رأس السلطة التنفيذية فان منافسة رئيس الحكومة له قوية جداً. فقد حدد دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية صلاحيات الحكومة (ورئيس الوزراء) فيما سمح مجمل الصلاحيات في ذلك الدستور لما سمي في فرنسا، منذ نهاية الثمانينات، بالتعايش بين رئيس وزراء من أغلبية برلمانية معارضة لسياسة رئيس الجمهورية، وكان اساس السلطة فيها بيد رئيس الوزراء مع بقاء السياسة الخارجية والجيش من اختصاص رئيس الدولة المنتخب ولكن بالتنسيق مع رئيس الوزراء.

هذا هو موقف الدستور الفرنسي من موقع رئيس الوزراء رغم المسحة الرئاسية المعروفة لهذا الدستور (انتخاب رئيس الجمهورية على رأس السلطة التنفيذية). أما في البرلمانيات فلنتذكر وضع توني بلير الذي هو الحاكم الحقيقي لبريطانيا كما هو شرودر لألمانيا، فاين من كل هذا رئيس الوزراء في قانون ادارة الدولة وكيف يستطيع ادارة كفة البلاد، لا سيما في مواجهة تحديات الارهاب وضغوط القوات المتعددة الجنسيات، وهو محكوم بالموازنات ويخضع للابتزاز من مختلف الجهات، حتى المشاركة معه في الوزارة.

التوازن لا يعني التضارب: وليس صحيحاً ما ذكره بعض المحللين السياسيين من ان نظرية التصادم والتوازن (بفضل الفصل بين السلطات واستقلاليتها عن بعضها)، والتي هي اساس عمل النظام الديمقراطي تجد ترجمة قوية لها في قانون ادارة الدولة. لأن هذه الآلية (التصادم والتوازن) موجودة، حسب رأيه، حتى في داخل السلطة الواحدة. ان هذا التشخيص يعبر عن فهم خاطئ لهذه النظرية، لأن التوازن في النظام الديمقراطي يتم بين سلطات مستقلة وذات بنى وآليات عمل خاصة بها تجعلها قوية في مواجهة السلطات الاخرى ومنسجمة معها، اما ان تكون مكونات السلطة الواحدة تصطدم ببعضها فهذا لا يعطينا التوازن بقدر ما ينتج ضعف السلطات ويسبب اضطراب عموم النظام السياسي، لا سيما عندما يتعلق الأمر باضعاف السلطة التنفيذية التي اتفقت التجارب البرلمانية العريقة (في بريطانيا وفرنسا مثلاً) على تقويتها حتى على حساب السلطة التشريعية، لضمان استقرار العمل الحكومي (اي الوزارة). المهم ان الديمقراطية لا تعني تضارب المؤسسات بل التوازن بين سلطات قوية ومنسجمة لأنها تعمل في اطار الشرعية الانتخابية ودولة القانون.

3 ـ أعطى قانون ادارة الدولة «للجمعية الوطنية وحدها سلطة ابرام المعاهدات والاتفاقات الدولية» (المادة 33، فقرة و) وليس مجرد حق المصادقة عليها. وهذا رغم ما ورد في (المادة 39، فقرة أ) من تنسيق مجلس الوزراء مع مجلس الرئاسة «لغرض التفاوض على عقد معاهدات واتفاقات دولية» وهنا يعطي للبرلمان دور المصادقة عليها ! والصحيح هو الموقف الثاني، فالحكومة هي التي تبرم المعاهدات وتقوم الجمعية الوطنية بدور المصادقة، وإلا كيف يمكن تصور جمعية وطنية تقوم بابرام المعاهدات مع الدول الأجنبية...

4 ـ رئيس وزراء مُحاصر: من جهة اخرى، يعتبر هذا القانون رئيس الوزراء والوزراء مسئولين امام الجمعية الوطنية ويعطيها حق سحب الثقة بدون ذكر للأسباب والآليات. بينما لا ينص هذا القانون، في المقابل، على حل الجمعية الوطنية من قبل رئيس الوزراء للاحتكام الى الشعب وهنا يصبح النظام السياسي قريباً من نظام الجمعية بينما هو قريب الى الرئاسي في ما يخص صلاحيات مجلس الرئاسة. فهذا النظام برلماني بتفاصيله المختلفة الأخرى، عندما يذكر مثلاً أن على الجمعية الوطنية النظر في «مشاريع القوانين المقترحة من قبل مجلس الوزراء بما في ذلك مشاريع قوانين الميزانية» (المادة 33 فقرة ب)، قبل ذكر اقتراحات القوانين المقدمة من قبل اعضاء الجمعية الوطنية (نفس المادة فقرة د)، بل ان مجلس الوزراء يحتكر تقديم مشروع الميزانية (فقرة ج من نفس المادة).. وبالنتيجة فهناك ثلاث أنظمة في نظام سياسي واحد!! او نظام برلماني برئيس وزراء ضعيف ومحاصر من الجهتين، الرئاسة والجمعية الوطنية، لكل هذه الأسباب فان استمرار هذه الوضعية الانتقالية لسنوات أخرى ، يعني الكثير من المصاعب لأي حكومة قادمة. أما من الناحية السياسية، فتقديم مسودة الدستور من قبل لجنة الصياغة الى الجمعية الوطنية ليست نهاية المطاف، بل هناك محطات اخرى مهمة تجعل من عملية التأجيل والعودة الى المربع الاول مصدر احباط وخسارة كبيرة، بالاضافة الى انها قد تساهم في تجميد الاوضاع السيئة مثل الفساد والاضطراب السياسي. اما الارهاب الصدامي والتكفيري، وما يسببانه من خسائر فادحة في العراق، وبالمدنيين خصوصاً، فحدث ولا حرج عن بالونة الاوكسجين التي سيتزود بها هذا الارهاب، بعد ان بدأ يحاصر في العديد من مواقعه. ومعروف ان الارهابيين المجرمين لم يوفروا اسلوبا الا وجربوه لمنع العملية الديمقراطية من التقدم في العراق. ولا داعي للتفصيل فهذه الحقائق ما عادت خافية على أحد.

* كاتب عراقي مقيم بباريس

[email protected]