دستور العراق .. أم دستور المنطقة؟

TT

إذا كانت ثمة عبرة من طرح صيغة فدرالية لحكم العراق فقد تكون تأكيد فشل ستة عقود من «استقلال» مجتمعات الشرق الاوسط ـ ولا نقول دوله ـ في تحقيق النقلة النوعية المطلوبة من مرحلة الولاءات القبلية والمذهبية الى مرحلة الولاء للدولة المركزية.

ما يبدو مخاضا عسيرا لمشروع الدستور الفدرالي للعراق قد يكون تجربة اولية لصيغ دساتير «الشرق الاوسط الجديد». وإذا كانت مجتمعات الشرق الاوسط تلام على تخلفها عن مواكبة الصيغة الاحدث لتحديد علاقة الفرد بكيانه السياسي في إطارالدولة الديمقراطية المركزية، فهذا لا يعفي دول الشرق الاوسط من مسؤولية تشويه صورة الدولة المركزية الى حد جعل شرائح واسعة من مجتمعاتها تتطلع الى صيغ حكم بديلة قاسمها المشترك تقليص دور السلطة المركزية.

ربما كانت عقدة تسريع الانتدابين البريطاني والفرنسي لعملية نقل الشرق الاوسط من صيغ الولايات شبه المستقلة ـ إبان الحكم العثماني ـ الى صيغة الدول المركزية (شبه المستقلة ايضا) أن هذه النقلة لم يرافقها تحول مواز في مفهوم «الولاءات»، فبقدر ما كانت الكيانات المركزية مفروضة فرضا بحكم لعبة تقاسم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا كانت فاقدة لشرعيتها الشعبية بداعي ولادتها «سفاحا» ومشكوكا بحدودها الجغرافية منظور قومي عربي (طوباوي بحيث بقى في نطاق الشعارات)... فتمخض استقلال مجتمعات الشرق الاوسط عن كيانات سياسية هشة استوجبت المحافظة على مركزيتها ضمان ولاء المؤسسة العسكرية لها... فكان ان ساهمت «تدخلات» العسكريين في الحكم في تعزيز مشاعر النفور الشعبي من السلطة المركزية.

رحم الله الشاعر ابراهيم اليازجي.

اليوم، أكثر من أي يوم مضى، يصح نداؤه الشهير: «انتبهوا واستفيقوا ايها العرب»: وحدتكم الشاملة نحرت، دولتكم المركزية هدرت... وديمقراطيتكم تختصرها الفدرالية الزاحفة من العراق.

بعد العراق، قد يكون لبنان الساحة المرشحة لتطبيق «الحالة العراقية»، فالخطاب المذهبي المتنامي في لبنان يوحي بان صيغة تعايش اللبنانيين مع بعضهم البعض لم تحسم بعد وان لبنان يدفع دفعا للانتقال من فدرالية الطوائف غير المعلنة الى الفدرالية المعلنة، إما حضاريا عبر تطبيق البند الاكثر اهمية والاكثر اهمالا في اتفاقية الطائف ـ أي تشكيل مجلس شيوخ تتمثل فيه بالتساوي المذاهب اللبنانية في ما يعتبر صيغة فدرالية طوائفية دستورية ـ أو عشوائيا عبر عودة ابنائه الى التقوقع «الكانتوني» في ما قد يتحول الى فدرالية «الامر الواقع»... علما ان البنى التحتية «للكانتونات» المذهبية قائمة، وميليشياتها المسلحة حاضرة، رغم انقضاء خمس عشرة سنة على انتهاء الحرب الاهلية.

أما سورية، فقد يكون سرا شائعا ما يتخوف العديدون منه ـ اي عودة فدراليات عام 1924(دويلات دمشق ـ حلب وجبل العلويين وجبل الدروز) في حال انهيار السلطة المركزية في دمشق، علما بان التقسيم الفدرالي لسورية ظل قائما الى عامي 1936 ـ 1937.

واسرائيل نفسها لا تبدو بمنأى عن عدوى الفدرالية، فانسحابها من قطاع غزة ومحاولة ابقاء هيمنتها العسكرية على اراضي السلطة الفلسطينية يحولان كيانها السياسي الى فدرالية اسرائيلية ـ فلسطينية قد تبقى قائمة ما بقيت الارجحية السكانية فيها لليهود. ولكن إذا استمر في الاتساع الشق السياسي بين المتدينين والعلمانيين (والذي ظهراحتمال اتخاذه طابعا صداميا بمناسبة خلاف الجانبين حول الانسحاب من غزة)، فقد تكون «الدولة اليهودية» أيضا مرشحة للتحول الى فدرالية تعايش بين اليهود التوراتيين (يهود «ارض الميعاد») واليهود الواقعيين (يهود الدولة ـ الملجأ).