شعر بسيط كالرغيف

TT

جاءنا في عز الاتحاد السوفياتي اثنان من أصحاب الأسماء الكبرى: شولوخوف، مؤلف «هادئاً يجري (نهر) الدون»، التي نال عليها نوبل، والشاعر يفتوشنكو. ذهبت إلى حضور الاثنين في أمسيتين جميلتين. الأول كان يمثل كهولة الروس وأصوات بحارة نهر الفولغا، والثاني كان شاباً وسيماً ناحلاً طويل القامة فضي الشَعر، يلقي قصائده كمن يذرّ الحبوب لأسراب السنونو. كانت أمسية عابرة. ولم أعد اقرأ يفتوشنكو لأنه كان يقدّم إلينا كجزء من الدعاية السوفياتية. وكانت هذه خرقاء وفاضحة ومباشرة وغليظة، في الوقت الذي بذل فيه الغرب المليارات في الصحافة والسينما والتلفزيون.

وعلى سبيل المثال أصدرت أميركا مجلة تجارية عادية تدعى «المختار»، كانت مهمتها أن تعطي صورة لماعة عن حياة الأسرة الأميركية ونجاحات «الحلم الأميركي». وقد أصدر النسخة العربية منها علي ومصطفى أمين. وحتى بعد أن عرفت حقيقة «المختار»، ظللت أجد سلوى وأحياناً فائدة في قراءتها. وفي المقابل أصدر السوفيات مجلة تدعى «المدار» ألوانها بدائية وأسلوبها فاقع وحبرها له رائحة لا تزول ذكراها من الأنوف. وبلغ توزيع طبعات «المختار» الملايين في 40 لغة. ولم استطع أن أقبض على أحد بالجرم المشهود، وهو يقرأ «المدار»، أو يستطيع حملها.

أهملت قراءة يفتوشنكو مكتفياً بتلك الأمسية التي اكتظت بأصحاب الشوارب الستالينية، من دون أن ينتبه أصدقاؤنا أن الشاعر كان الرمز المضاد، كما كان صورة روسيا الجديدة. ومنذ عامين تقريباً، خطر لي أن أعيد قراءة يفتوشنكو. هل كان مجرد صناعة دعائية لمرحلة لم يعد لها وجود؟ هل كان تكدساً لفظياً مثل الموجة التي سادت تلك الأيام تحت عنوان فضفاض هو «الشعر الحديث» المظلة التي تفيأها عدد هائل من عدماء الموهبة والذوق؟ فوجئت بشعر يفتوشنكو. لمحت في قصائده ثلوج بوشكين وسمعت أنغام بابلو نيرودا. وخلته يتمشى في غابات الأدب الروسي سامقاً ومغرداً. وشعرت بأنني حققت كشفاً كان يمكن أن يفوتني لو لم أبذل هذه المحاولة، بغير جهد كبير. وأنا الآن اقرأه بين الكلاسيكيين، بعيداً جداً عن تلك المرحلة، التي لم تعد في بال أحد. وبعيداً عن الأصدقاء ذوي الشوارب الكثة، الذين ظنوا أن الشعر الجميل حزب عريض الأكتاف يُصطف له بعبوس وغضب. كان يقال إن بابلو نيرودا «ستاليني». وما اظلم اختصار الأساطير الأدبية في نعت أو وصف أو علبة كبريت. وعندما سئل ديغول مرة من هو أفضل الشعراء عنده، قال «لا تظلموا هؤلاء الأمراء بهذه المراتب». وإذا أردت أن اختصر نيرودا اليوم، فسوف استعير من يفغيني يفتوشنكو: «كان يحمل شعره إلى الناس ببساطة وسكينة، كمن يحمل رغيفاً من الخبز».