الفدرالية: اتحاد جامع.. أم ذريعة للتفتيت؟

TT

تأوّل نفر من الناس اسم (نوردوم سيهانوك)، تأويلاً فهم منه (عروبة) صاحب الاسم. فأصل الاسم عند هذا المتأوّل، هو (نور الدين شيخ النوق)، معززا تأويله بقرينة أخرى هي: ان كمبوديا نفسها كانت (عربية) في زمن غابر، بدليل ان اسمها الأول العريق الوضعي هو (كان بودي)، فلا يزال يتحرّف بالاستعمال حتى أصبح (كام بوديا)!.

ويبدو أن هناك من تأوّل ـ أيضاً ـ كلمة (فدرالية)، حين ردها أو اشتقّها من جذر عربي هو (فدر). فمن اشتقاقات هذا الجذر: الانقطاع والانعزال عن المجموع، ففحل فدر، أي منعزل. والفدرة هي القطعة المنبتة من كل شيء.. في حين أن (الفدرالية) مصطلح سياسي لا علاقة له بلفظة فدر هذه، لكن التأويل الفاسد لها، أي الفدرالية، يجعلها مثيلا للانقطاع والانعزال والتشظي والانفصال المرن المبرمج المؤصل.

وهذا منفذ إلى موضوع المقال: موضوع أن ما يجري في العراق من صراع فكري وسياسي ودستوري: مشحون بمخاطر التقسيم والتفتيت في ظل مصطلح الفدرالية، ولئن قيل: إنه لا مساحة في الاصطلاح، فإن المساحة قائمة وحادة في ما يتعلق بمفاهيم المصطلحات، وفي توظيفها واستغلالها.

ان الفدرالية ـ في عبارة ميسرة جدا ـ هي: تفاهم مجموعة من الأقاليم وتراضيها سياسيا ودستوريا على أن تتحد في ظل دولة واحدة ذات حكومة مركزية لها صلاحيات معينة لا تنازعها فيها الأقاليم ولا تتجاوزها.. ويعني هذا المفهوم (المتفق عليه في غالب المدارس السياسية والدستورية)، يعني: التراضي العام على صلاحيات غير مركزية للاقاليم.. والتوافق الجماعي على أهمية الحكومة المركزية وسلطاتها.. وألا تُنقض صلاحية المركز باسم الفدرالية.. وألا تكون الفدرالية في يوم ما ذريعة للتقسيم والتفتيت والتفجير بألغام دستورية أو بأجندات سياسية خفية يتواطأ عليها أطراف في الاتحاد.. ومن أبرز النماذج الفدرالية: اتحاد الولايات الأمريكية، فهو اتحاد تفاهم وتراض على صلاحيات الولايات، وعلى صلاحيات الحكومة المركزية التي من حقها استعمال حقها الدستوري تجاه كل ما يخل بالاتحاد. وعلى سبيل المثال: قبل ان يجرى تنصيب ابراهام لنكولن رئيسا للولايات المتحدة، كانت سبع ولايات جنوبية قد انفصلت عن الاتحاد، وأنشأت ولايات منفصلة باسم (ولايات امريكا الاتحادية)، ولقد تطلب اعادة تلك الولايات الى الإطار الدستوري والتطبيقي الاتحادي: تطلب سنوات أربعا من الصراع الدامي الرهيب.

فالفدرالية ـ من ثم ـ ليست منتدى يحتسي اللهو سمّاره، ولا اتفاقا (مزاجيا) يبرمه صاحب المزاج متى شاء، وينقضه متى شاء، ولا صراعا دائما بين المركز والأقاليم، ولا ذريعة لهدم (الدولة) بحجة أن طغاة باشروا السلطة فيها فأساءوا استعمال السلطة بالتجبر والظلم والاستبداد، فلو كانت الدول تفتت أو تلغى بسبب وجود حكام يظلمون ويبطشون ويذلون الإنسان: لتعين إلغاء دولة فرنسا بسبب مظالم نابليون، وإلغاء دولة ألمانيا بسبب طغيان هتلر وجنونه، وإلغاء دولة إيران بسبب استبداد الشاه وبغيه وظلمه.

لقد طرحت الفدرالية في العراق بصورة هي أقرب إلى (الثأر) من المركز منها إلى البحث المعقول المشروع عن (صلاحيات مجزية) للأقاليم في ظل دولة موحدة.

نعم، ان المفهوم الفدرالي المطروح في العراق اليوم، إنما هو (تقسيم حقيقي وكامل) لدولة العراق:

1 ـ تقسيم جغرافي (شمال وجنوب.. الخ).

2 ـ تقسيم عِرقي (عرب وأكراد.. الخ).

3 ـ تقسيم طائفي (شيعة وسنّة.. الخ).

إن مشروع الدستور المعروض للمناقشة اليوم، قد نص على المرجعية الدينية واستقلالها الإرشادي ودورها الوطني.. فأي مرجعية يقصد هذا النص؟.. ان الارتفاع الإسلامي الواجب فوق النزعات الطائفية، يقضي بالاكتفاء بالنص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن شريعته هي الهدي العام لجميع المسلمين في العراق.. هذا يكفي.. يكفي.. يكفي.. وثمّة لغم في العلاقات الخارجية مدفون في مشروع الدستور، فقد نص المشروع على أن يتمتع رئيس الإقليم بحق تمثيل إقليمه في الخارج!.

نحن نعلم أنه قد نزل ضرر شديد وبلاء عظيم بالشيعة في العراق، لذا فإن إنصافهم واجب على كل شريف حر، ثم ان لهم دورهم الكبير في تاريخ العراق وحاضره ومستقبله. بيد أن دستورا عاما عاقلا راشدا عادلا متوازنا.. يحفظ لهم ذلك كله، في سياق الحفاظ على حقوق الأمة العراقية كلها.

ونحن نعلم أن الأكراد قد نزل بهم ضرر شديد، وبلاء عظيم. ولسنا نقول ذلك ابتغاء التوازن في الطرح الآن، بل قلناه ـ في هذا المكان منذ سنوات سبع ـ إذ قلنا: «إن القضية التي لا يحق لأحد أن يغيبها عن الوعي هي: أن الأكراد مظلومون ثقافيا واقتصاديا وعِرقيا، ومظلومون بحرمانهم ـ بحكم قوميتهم ـ من الصعود إلى المناصب التي من حق أي مواطن أن يصل إليها بكفاءته المجردة»..

ومن هنا، فإن من حق الأكراد أن يتحرّوا ما يضمن حقوقهم ومصالحهم، لكن من خلال دستور عام عادل راشد متوازن يكفل حقوق الجميع دون تمايز، ودون انتهاز فرصة سانحة لتأصيل ما لا ينبغي أن يكون.. وإنا لنسأل اخواننا الاكراد: لماذا الضيق بالعروبة؟.. أليس في هذا الضيق اقتداء بصدام حسين الذي كان يضيق بالقوميات الأخرى: الكردية وغيرها؟.. أليس معقولا أن نقول: إن العروبة ليست اختراعا صداميا فهي وجدت قبله وستظل باقية بعده؟.. ثم لماذا الضيق بالإسلام والحرص على استبعاده من الدستور؟.. ان الذي نعلمه ـ بيقين ـ هو: ان الكرد شعب مسلم في معظمه، ولا نتصور أنه فوض أحدا في النيابة عنه للتنكر للإسلام.. أيُهجر الإسلام بسبب صدام ونظامه؟.. ومن قال إن هذا الرجل ونظامه يمثلان الإسلام ويعبّران عنه؟.. لقد رزئ الإسلام بهما كما رزئ الكرد أو أشد.. ولماذا استدعاء الخيوط والدلالات التي تربط بين هذا التوجه وبين بول بريمر الحاكم الامريكي السابق للعراق؟، فقد قال بريمر: «سأستخدم حق النقض (الفيتو) إذا نص مشروع الدستور العراقي على أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع»!.

ان زوال المخاطر السابقة ـ وأولها خطر طغيان صدام حسين ونظامه ـ لا ينبغي ـ في منطق العقلاء العمليين ـ أن يغيّب العين عن المخاطر الحاضرة والمستقبلة: المحدقة بالعراق.

وفي مقدمة هذه المخاطر: الفتنة الداخلية، وتمزيق العراق، وهما خطران متداخلان متناسلان.

من الحقائق الاستراتيجية التي ينبغي أن تعلم ولا تجهل: ان اسرائيل قد بنت حاضرها ومستقبلها وربطته بثلاثة عوامل في المنطقة، لا بد ان تحدث، ولا بد أن تدوم: أـ عامل الضعف العسكري لكل دول المنطقة. ب ـ عامل الفتنة الطائفية والمذهبية الذي يستديم عدم الاستقرار. جـ ـ عامل التقسيم والتفتيت.

ومن الدلائل على ذلك:

1 ـ أن كيسنجر (وهو معروف التوجه والانتماء)، قد اقترح تقسيم العراق منذ سنوات طويلة، قد يكون في ذهنه يومها: ما يجري اليوم في العراق، أو قد يكون في ذهنه ساعتها: مجرد أمنية استراتيجية.

2 ـ غداة زوال النظام الطغياني في العراق، قال مارتن انديك (وهو معروف التوجه والانتماء)، قال: «من السذاجة والغباء أن نشغل أنفسنا بقضايا الكهرباء والماء في العراق، فالمهمة العاجلة لاستقرارنا واستمرارنا هناك هي: إحياء القاعدة الاستعمارية القديمة: «فرِّق تسد».

ثم ننعطف بالسياق إلى الأسباب الجوهرية لهذه الأزمة الخانقة الطاحنة.

وأول الأسباب هو: ان البدايات الخاطئة لن تؤدي إلى نتائج صحيحة، فإذا بدأت العملية الحسابية بخطأ، فإن هذا الخطأ سيظهر في كل نتيجة حسابية: بسيطة أو مركبة، ما لم يقع تنبُّه للخطأ وتصحيح له في قاعدة الانطلاق الحسابي.

وما جرى في العراق: انبنى منذ البدء على كذبة أسلحة الدمار الشامل.

وانبنى كذلك على سوء التقدير والحساب للأوضاع الاجتماعية والثقافية والأمنية والسياسية في العراق.

وليس أعداء الولايات المتحدة هم الذين يقولون ذلك، بل القائلون هم أمريكان الاصل %100، بل مسؤولون أمريكيون.. فقد كشفت صحيفة «واشنطن بوست»، معلومة مروعة، وحقيقة مذهلة، إذ قالت: «إن الإدارة الأمريكية قررت خفض سقف توقعاتها الوردية في العراق، بعد أن أدركت أنها لا بد أن تكتفي بأقل القليل مما كانت تتوقعه». ونقلت الصحيفة على لسان مصادر امريكية رفيعة الموقع: «ان الولايات المتحدة كفت عن توقع ظهور نموذج جديد للديمقراطية في العراق، وعن توقع صناعة بترولية تتمتع بالاكتفاء الذاتي، وعن توقع قيام مجتمع لا يعاني أفراده من الإحباطات الأمنية والاقتصادية، وعن توقع وجود نظام علماني حديث متفوق على التخلفات الطائفية والعِرقية».

ماذا بقي من الأهداف المعلنة للحرب المدمرة؟

الجواب: (صفر)..

وهكذا، فإن قاعدة: «إن البدايات الخاطئة تؤدي إلى نهايات خاطئة أو نتائج خاطئة»، هي قاعدة صحيحة في مجال السياسة، كما هي في مجال الرياضيات.

ما الحل؟.. الحل ـ بداهة ـ ليس في الحنين الآثم إلى نظام الطاغية الهالك، فالطغيان ذاته هو الذي أنجب الأسباب الكبرى للأزمة العاتية التي أشقت العراقيين جميعا.. وإنما يثوى الحل في التصحيح العاجل لقاعدة الحساب الخاطئة، وإلا فإن الأخطاء ستتناسل إلى ما لا نهاية.

وأول خطوة في تصحيح الحساب: تفكير وطني مستقل عن التوجهات (غير العراقية): الإقليمية والدولية.. تفكير وطني يهضم دروس المحنة الكبرى ـ السابقة والراهنة ـ .. تفكير وطني معافى من عاهات خطايا النظام السابق في إدارة الشأن الوطني.. تفكير وطني ذو قاعدة جامعة راسخة هي: الإبقاء على العراق دولة موحدة على كل حال. ولئن تلظى العراق بسلبيات امريكية قاتلة، فانه يمكن ان يستفيد من روائع التفكير الاميركي الوطني الايجابي. لقد كان ستيفن دوجلاس خصما منافسا لابراهام لنكولن، وعلى الرغم من الخلاف الحاد بينهما، فقد قال دوجلاس للنكولن: «إني وإياك يا سيدي اختلفنا مرات عديدة سياسيا، ولكننا لم نختلف أبدا في حبنا للاتحاد».