العراق.. دستور ليبرالي سيجنبه ديكتاتورية الأغلبية

TT

من الحكمة الا يتسرع العراقيون «بسلق» مسودة دستور لمجرد اللحاق بموعد فرض عليهم. فخطورة القضايا موضع الخلاف، (توازن السلطة بين بغداد والحكومات المحلية وشكل الفيدرالية; دور الإسلام في التشريعات، وتأثيره على حقوق الإنسان والمرأة ; وتوزيع دخل البترول)، تأثيرها يتجاوز استقرار العراق الى تهديد بقائه كدولة قومية.

ضغوط واشنطن لإصدار مسودة الدستور، في موعد حدد لأسباب تتعلق برغبة الرئيس جورج بوش في مواجهة الناخب الأمريكي بجدول زمني لسحب القوات من العراق، لم تكن امرا حكيما. والحكمة ليست مرادفا يقفز الى الذهن عند ذكر السياسة الأمريكية; خاصة ان تحديد تواريخ في السابق كبداية مرحل جديدة للاستقرار كانت له آثار سلبية.

نتائج الانتخابات كانت مرآة لتعقيد التركيبة السياسية العراقية وانعكست في تأخير غير مسبوق في تشكيل الحكومة الحالية لصعوبة الاتفاق على الحقائب الوزارية، مما دفعني، وغيري من المتخصصين في شؤون المنطقة، الي التحذير، سواء في الندوات المتخصصة، او علنا في بي بي سي وحتى في محطات امريكية، بعدم توقع التوصل الى صياغة الدستور في 15 اغسطس. وتعجبت من عدم مناقشة البرلمان العراقي، في جلساته الأولى، تعديل الشروط المتعلقة بموعد 15 اغسطس لإتمام صياغة مسودة الدستور.

لأول مرة منذ انقلاب 1958, يختبر العراقيون الخلاف في الرأي علنا والمبارزات السياسية تحت قبة البرلمان لصياغة سياسة حكم لا تفرضها الدبابة والسحل والغاز الكيماوي. وليست هناك سابقة، منذ تأسيس العراق في العشرينات، لتولي العراقيين وضع احجار الأساس في بناء الدولة ومؤسساتها بانفسهم. والتجارب المشابهة استغرقت الأمم الأخرى سنوات طوال، رغم ان زياراتي لجلسات العراقيين السياسية، حتى في المجالس المحلية، اقنعتني بسرعة اكتسابهم للمهارات السياسية الناضجة، مثبتين ميل الغريزة الإنسانية للحرية في السعي نحو العدالة، وان الشعوب تتساوى في قدرتها على اكتساب مهارة ممارسة الديموقراطية.

الدستور، الذي تتوقع حكومة الجعفري اعلان مسودته بعد غد (الاثنين 22)، سيحدد، ما إذا كان العراق سيظل متماسكا كدولة قومية، كما سيحدد ما إذا كان التدخل العسكري قد اثمر عن ديموقراطية ليبرالية تعددية بحكم القانون، ام عن شمولية الديكتاتورية الثيوقراطية. فتركيبة البرلمان العراقي، خاصة مع مقاطعة السنة العرب للانتخابات، قد تنتهي بغلبة الاتجاه الثاني اذا ما اعطي الفقيه حق الولاية. والتجربة الإيرانية التي تعجب بها كتلة برلمانية ذات وزن معتبر ساعية الى خلق «جمهورية العراق الإسلامية» والتي لن تثلج صدر احد.

هناك خلط في الأذهان بين الديموقراطية والليبرالية. ديموس (شعب) وقراطيا (سلطة) ـ من اليونانية ـ تعريف مبسط للديموقراطية: حكم الأغلبية العددية (صوت واحد للشخص الواحد) مما قد يؤدي أحيانا الى ديكتاتورية الأغلبية وكوارث للاقليات; فالجماهير تصوت عاطفيا بتأثير ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، كانتخاب الالمان للنازي في الثلاثينات وما تبعه من محارق وحرب عالمية.

الليبرالية مفهوم أكثر اتساعا حيث لا تنفصل فيها التعددية السياسية عن اقتصاديات السوق الحر والانفتاح الثقافي وتقديس حريات الفرد والرأي والملكية، والتسامح وقبول الآخر، كشرط للرواج التجاري والرخاء، والسلام، واعتماد الأساليب الديموقراطية لمبدأ تناوب الحكم، وضمانات دستورية لحماية الأقليات العرقية وحقوق الأقل تمثيليا برلمانيا. النموذج فيدرالية المملكة المتحدة في بريطانيا.

فمجلس اللوردات (حكماء غير منتخبين) درع ضد تجاوزات الأغلبية في مجلس العموم; القضاء مستقل تماما; الجيش ومؤسسات الدولة ثوابت تتبع التاج، رمز وحدة واستقرار الأمة، وليس الحكومة المتغيرة بالانتخاب; والسلطة الرابعة (الصحافة) مستقلة عن الثلاثة (القضاء والحكومة والدولة).

حرمت الاتقلابات العسكرية العراق من الأسس الضرورية لتأسيس نظام ليبرالي فيدرالي يفصل السلطات كالمملكة المتحدة، وهو نظام أكثر ملائمة لموزايك العراق المتشابك عرقيا ودينيا. والمولود الذي لا يزال يحبو يحتاج من يمسك بيده ليسير باتزان بدلا من تعريضه للخطر بدفعه للقفز والعدو السريع.

بطش صدام حسين، بالأكراد والتركمان والآشوريين والأغلبية الشيعية ومنح الامتيازات لقاعدة ضيقة من السنة العرب. ومن الحماقة الاعتقاد بإصلاح خطأ ظلم الأقلية للأغلبية الشيعية بارتكاب خطأ آخر بتحويلها الى ديكتاتورية الاغلبية.

فالعرب السنة، رغم دعوتهم للاشتراك في لجنة صياغة الدستور، لا يزالون اقل تمثيلا في البرلمان من غيرهم من الطوائف الأخرى.

ولذا فمن الحكمة ان يكون الدستور الآن انتقاليا وليس نهائيا، وترك التفاصيل المتعلقة بحدود الأقاليم وصلاحيات السلطات الفيدرالية، ودور الشريعة في القانون، الى مرحلة اعادة الصياغة في ظل البرلمان القادم، الأكثر تمثيلا، خاصة ان الدلائل تشير الى ان العرب السنة سيشتركون بأعداد كبيرة في الانتخابات القادمة. والأفضل ان يشكل البرلمان الجديد لجنة من محاميين دستوريين مستقلين، يستعينون بخبرة متخصصين من ديموقراطيات عريقة، يستشيرون الأحزاب والتيارات، لإعادة الصياغة وإجراء التعديلات، وتجاهل أية ضغوط من أية اطراف مهما عظم دورها في حماية العراق، وتقدم المسودة للبرلمان لمناقشتها في جلسات مفتوحة، ثم تدخل تعديلات في ضوء المناقشات وتعاد الكرة بضع مرات من دون تحديد مواعيد نهائية، الا بعد قناعة اللجنة بسلامة الدستور قانونيا.

ويجدر بالبرلمانيين اشتراط ان يكون الدستور مختصرا ديناميكيا قابلا للتعديل والإضافة، لإصلاح ما قد تبينه الخبرة المستقبلية من قصور في مواده او مشاكل عند التطبيق، فقط عند استيفاء هذه الشروط، يقدم الدستور للامة العراقية للتصويت عليه.

خطورة التسرع، تتجاوز مجرد الوقوع في أخطاء قانونية لتصل الى ما قد يهدد مستقبل العراق كأمة متماسكة، فقد يدفع اللحاق بالموعد البعض الى مقايضة المبادئ الليبرالية بالحصول على مكاسب عرقية او جغرافية او اقتصادية.

فقد يدعم البعض اطلاق يد احزاب شيعية لتأسيس ديكتاتورية دينية في الجنوب مقابل حريتهم الإقليمية في مناطق حكم ذاتي علماني في الشمال مثلا، او قبول البعض بنصيب اكبر من دخل البترول والثروات الطبيعية مقابل فرض الشريعة الإسلامية كمصدر اساسي للقوانين والتشريعات.

التاريخ علمنا ان هناك اخطاء يمكن اصلاحها، وأخرى قاتلة لا سبيل لإصلاحها. فالتشريعات القانونية البرلمانية يمكن اصلاحها وتعديلها او الغائها واستبدالها في أي وقت، اما الشريعة الإسلامية فتعتبرها الأحزاب الدينية قانونا سماويا غير قابل للتعديل. ولذا ففصل مؤسسات الدولة، بما فيها الدستور عن الدين، يمنح العراقيين المرونة التي سيحتاجونها في سنوات البناء القادمة لإصلاح الأخطاء التي سيقعون فيها والنهوض من العثرات في طريقهم الشاق، وهو ما يصعب تصوره في ظل دستور يعتمد الشريعة الاسلامية اساسا، اذ سيفتي الفقهاء «بتكفير» من يجتهد لتعديل مواد يعتبرونها من الأسس الإسلامية.

وإذا كان المتوقع من الدستور ان يؤكد استقلال وسيادة العراقيين، فيجب ان يعطي الحكومة المنتخبة صلاحية سلطة التعامل مع القوات الأجنبية وتحديد مدة بقائها في البلاد حسب حاجة العراقيين انفسهم. ومن الضرورة ان يضمن الدستور المساواة بين جميع العراقيين ورفض تشريعات، تحول النساء وغير المسلمين الى مواطنين درجة ثانية او تفرض عليهم اسلوب حياة ومظهر وملبس لا يختارونه بإرادة حرة.