الانسحاب من غزة.. وماذا بعد..؟

TT

أخيرا بدأت إسرائيل الخروج من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، وذلك يلقي على سلطتنا الوطنية وشعبنا الفلسطيني بكل قواه السياسية الوطنية والإسلامية مسؤولية كبيرة جدا في التعاطي مع الوضع الجديد الناتج عن اندحار الاحتلال عن جزء عزيز من وطننا الغالي، باعتباره خطوة على طريق بناء دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس، ومقدمة لاندحار الاحتلال عن كافة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في يونيو (حزيران) 1967 بما فيها القدس.

أهمية هذه الخطوة تكمن في أنها المرة الأولى التي تقوم فيها إسرائيل بتفكيك مستوطنات رئيسية في المناطق الفلسطينية التي احتلتها في عام 1967، وذلك بإزالة 21 مستوطنة في قطاع غزة كانت جاثمة على حوالي 40% من مساحة القطاع، بالإضافة إلى أربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، وهي المرة الأولى أيضا التي تنسحب فيها إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو عام 1967، من خلال انسحابها من كل قطاع غزة وذلك يمثل سابقة مهمة يجب البناء عليها فيما يتعلق بالضفة الغربية والقدس الشرقية.

وبغض النظر عن تضارب الأسباب التي دفعت بشارون، الذي كان يعتبر مستوطنة صغيرة معزولة في وسط قطاع غزة «نيتساريم» بأهمية تل أبيب، الإقدام على هذه الخطوة، إلا أننا لا بد من أن نتفق على أن نضالات شعبنا، كل شعبنا، وليس هذا الفصيل أو ذاك، هي التي جعلت استمرار الاحتلال في قطاع غزة مشروعا خاسرا وغير مجد بالنسبة لإسرائيل.

أيام قليلة تفصلنا عن اكتمال اندحار الاحتلال عن كامل قطاع غزة، والعالم بأسره ينظر بترقب إلى اليوم التالي لاكتمال الانسحاب، ليرى ماذا نحن فاعلون، فإما أن نثبت بحسن أدائنا وإداراتنا للقطاع، كسلطة وطنية فلسطينية، وبتعاون الجميع أننا جديرون بدولة، أو لا قدر الله أن تغرق الساحة الفلسطينية في ما لا يحمد عقباه، وهو ما تراهن عليه إسرائيل لتثبت ما كانت تدعيه.

هل سيكون الحوار الداخلي والحوار فقط هو الطريق الوحيد لتذليل كل العقبات ولحل مشكلة الفلتان الأمني، وصولا إلى أفضل السبل لترميم البيت الفلسطيني الداخلي والتعامل مع الملف الأمني والمليشيات المسلحة وتعزيز المشاركة السياسية والتداول السلمي على السلطة فقط من خلال صندوق الاقتراع؟

هل سيكون نظامنا السياسي الفلسطيني قائما على أعلى درجات الشفافية والنزاهة والمصداقية، وصولا الى الحكم الصالح الذي ينشده شعبنا؟ هل سيسود التعامل الأخلاقي عملنا السياسي الفلسطيني، لكي نتمكن من متابعة قضايانا المهمة، ولكي يكون قطاع غزة أولا على طريق تحرير بقية الأرض الفلسطينية وليس آخرا؟ وهذا بمجمله مطلب كل شعبنا الفلسطيني... سلطة واحدة وسلاح واحد وسيادة القانون وتحقيق العدالة والتنمية؟ ام سيحاول البعض إغراق الساحة بأجندته الضيقة وبمواقفه المسبقة بعيدا عن اي حوار أو اتفاق؟

علينا جميعا أن ننتبه إلى ما يحدث حولنا، فها هي إسرائيل تسعى ومن خلال حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية لاستصدار قرار من مجلس الأمن بانتهاء الاحتلال في قطاع غزة، مما يعفي إسرائيل من أية مسؤوليات وفق القانون الدولي. وهذا الأمر يتطلب تكثيف الجهود والتواصل مع المجتمع الدولي والأشقاء والأصدقاء لمنع ذلك، فإسرائيل ما زالت تسيطر على أجواء ومياه وحدود قطاع غزة برا وبحرا وجوا. وقطاع غزة هو جزء من الأراضي التي احتلت عام 1967، وبالتالي يجب أن يتحقق الربط الكامل بينه وبين الضفة الغربية كوحدة جغرافية واحدة، وكل ذلك لم يتحقق، مما يتطلب التركيز وبذل كل الجهود وبالقانون الدولي للتصدي لمثل هذا القرار ومنع إصداره تجنبا لتبعاته الخطيرة على شعبنا الفلسطيني وقضيتنا الوطنية.

وها هي الحكومة الإسرائيلية الأمنية تعلن أنها ستعتبر اتفاق «الغلاف الجمركي» بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية غير نافذ على قطاع غزة، وهذا أيضا إجراء خطير حيث يعني ببساطة سرقة 30% من المقاصة التي تمثل عائداتنا ووارداتنا في قطاع غزة من الضرائب والجمارك التي تجبيها إسرائيل لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية، وهذا مخالف لكل الاتفاقيات والأعراف الدولية، ويجب التصدي له ومنعه، ناهيك من الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية جمركيا وانعكاسات ذلك سياسيا على مستقبل قضيتنا الوطنية ومفاوضات الحل الدائم، مع ضرورة التأكيد ان توفر حدود اقتصادية فعالة فى قطاع غزة يسمح بتحقيق التبادلية في اتفاق الغلاف الجمركي، وهي تفاهمات تم التوصل إليها سابقا، ولا بد من البناء عليها.

وفي نفس الوقت علينا وبشكل مواز البدء فورا بإعادة بناء وهيكلة اقتصاد قطاع غزة وشمال الضفة، والبدء بتنفيذ مشاريع إستراتيجية مهمة وخلق بيئة استثمارية ملائمة لجذب الاستثمارات وتحفيز القطاع الخاص الفلسطيني وتفعيل قانوني تشجيع الاستثمار والمدن الصناعية والمناطق الحرة في فلسطين، بما يضمن تحقيق انتعاش اقتصادي وخلق فرص عمل.. وهذا يتطلب تخطيطا طويل المدى وإعادة النظر في مخططات استخدامات الأراضي في قطاع غزة وتطوير المخطط الإقليمي لقطاع غزة، الذي أعد في عام 1998.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك مشاريع حيوية واستراتيجية لا بد أن نبدأ بالإعداد لها والعمل بها في قطاع غزة، منها مشروع الميناء الذي أنجزت سابقا كل دراسات الجدوى الاقتصادية والمخططات له، بما في ذلك الدراسات البيئية. وهناك إجماع أنه ولأسباب بيئية واقتصادية وسياسية لا بد من إقامة الميناء في مكانه الحالي في منطقة الشيخ عجلين مقابل مستوطنة «نيتساريم» لأسباب كثيرة أهمها، إن إسرائيل لن تسمح بنقل موقع الميناء شمالا، وهو الأفضل لنا بكل المعايير، ولا يجوز نقله جنوبا لأن ذلك سيضاعف الأضرار التي ستلحق بشواطئ قطاع غزة، ناهيك من الأضرار الاقتصادية والتأخير الذي سينتج عن إعادة كل الدراسات والمخططات من جديد.

وهناك مشروع استثمار الغاز من حقول الغاز في شاطئ قطاع غزة وتنفيذ اتفاقيات الربط مع جمهورية مصر العربية ونقله وتوزيعه وتسويقه واستخدامه أيضا في محطة توليد الكهرباء في غزة.

وهناك المطار.. مطار غزة الدولي وإعادة ترميمه وتشغيله من جديد، مع التأكيد على ضرورة إقامة مطار دولي يحقق كل المتطلبات الدولية، وقد يكون المكان الأنسب وبكل المعايير هو الحدود المصرية الفلسطينية في غرب مدينة رفح، على بعد حوالي كيلومترين من شاطئ بحر رفح المحررة، وهذا يتطلب أن يدرس الأمر بجدية وموضوعية، فدراسات الجدوى والمعايير الدولية ومتطلبات مستقبل قطاع غزة وبناء دولتنا الفلسطينية المستقلة يتطلب ذلك بإلحاح، والمكان الحالي قد يكون مناسبا على المدى القريب، ولكنه لا يصلح على المدى المتوسط والبعيد وهذا يتطلب إعادة النظر في استخدامات الأراضي المحررة غرب مدينة رفح الحدودية، بما يضمن تحقيق ذلك، بحيث يحول الموقع الحالي للمطار مستقبلا ليكون جزءا من منطقة رفح الصناعية المنوي إقامتها مع المناطق الاقتصادية في المخطط الإقليمي، (صناعية.. سياحية.. زراعية)، التي لا بد من أن تؤخذ في الاعتبار، إعدادا وتنفيذا، وكذلك إمكانية إقامة مرافق تعليمية وصحية في الأراضي المحررة (جامعات ومستشفيات ومؤسسات)، وتفعيل دور القطاع الخاص في كل تلك المجالات الحيوية.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن شاطئ غزة، خاصة المنطقة الممتدة من موقع ميناء غزة البحري وحتى بيت لاهيا يتآكل باستمرار، مما يتطلب ردم، على الأقل، ما يصل إلى مائتي متر والأمر ليس صعبا، فهناك ما يزيد عن مليون وستمائة ألف طن من الركام في المستوطنات.. وهناك كميات كبيرة من الركام تنتشر في كل مناطق قطاع غزة عشوائيا من البيوت التي هدمتها إسرائيل وغيرها من عمليات الهدم والترميم، وهذا يستوجب منا القيام بحملة لتنظيف قطاع غزة واستخدام كل ذلك في كورنيش يكون ملكية عامة على شاطئ بحر غزة وشمال غزة، وذلك يتطلب بناء جدار استنادي من الباطون المقوى أو من الألواح المعدنية من الحديد المقلفن على بعد 200 متر من الشاطئ، ليتم وضع الردم لضمان منع أي تلوث أو آثار بيئية سلبية على الإطلاق لتحقيق الهدف المنشود شريطة أن يتم لاحقا وضع كاسر أمواج متقطع على طول الشاطئ داخل البحر من الصخور المخصصة لذلك، للحفاظ على سلامة الشاطئ وحماية المنتجعات السياحية وتوفير الأماكن الملائمة للمصطافين على امتداد الشاطئ ومنع تآكله.

ومن الأهمية الإشارة هنا إلى أن معدلات الفقر والبطالة في قطاع غزة ما زالت تفوق معدلاتها في الضفة الغربية بحوالي الضعف وفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ومعدلات الفقر المدقع تزيد على 21.5%، وذلك يلقي أعباء إضافية على سلطتنا الوطنية لمعالجة ذلك، مما يتطلب من مؤسسة مجلس الوزراء العمل بروح الفريق، ولا يكفي حسن النيات لدى الأخ الرئيس محمود عباس أو رئيس الوزراء أحمد قريع لتحقيق الانتعاش الاقتصادي المنشود، فالكثير من الوزراء والمسؤولين ينظر فقط بين قدميه ولا يعمل وفق مخطط بعيد المدى، بل ان بعضهم يعمل بعيدا عن السياسة العامة المقرة من مجلس الوزراء، وفى كثير من الأحيان نسمع منهم تصريحات عن إنجازات وهمية لا وجود لها ومساعدات خارجية لن تأتي وكأننا في دعاية انتخابية مبكرة... وسوء التخطيط والأداء هذا سيكلفنا الكثير إن لم يتم تدارك الأمر، هذا فقط على سبيل المثال لا الحصر.

وأخيرا لا بد من التأكيد على أننا بحاجة إلى التمسك بأخلاقيات العمل السياسي والتخطيط بعيد المدى والانتماء الوطني الصادق وأن تكون النزاهة والكفاءة والمهنية والقدرة هي معيارنا الوحيد في اختيار الرجل المناسب، والشفافية والمصداقية والديمقراطية هي طريقنا لتحقيق أهدافنا في التنمية والبناء والحكم الصالح، بكل ذلك نضمن الحرية والاستقلال وبناء دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس على أسس متينة تضمن لها الحياة والاستمرار وتكفل للأجيال القادمة حياة أفضل ونموا وتقدما.

* عضو المجلس التشريعي الفلسطيني