أفراح الفلسطينيين وأحزانهم عند شاطئ غزة

TT

يمارس شارون بتلذّذ واستمتاع، مسرحية الخروج الإسرائيلي من غزة. فهو يطيل ويطيل أيام الانسحاب وساعاته ودقائقه، لكي يشاهد الرأي العام كله ما يجري. وما يجري هو معارضة إسرائيلية عنيفة للانسحاب يقوم بها المستوطنون المتطرفون، وتعويضات ضخمة لكل مستوطن يتم نقله من غزة إلى مستوطنات أخرى. والرسالة التي يريد شارون إيصالها من خلال الفيلم الذي يتواصل عرضه، هي القول: إذا كان الانسحاب من 17 مستوطنة لا تضم أكثر من 8 آلاف مستوطن يحدث كل هذا الصخب الإسرائيلي الداخلي، فكيف سيكون الأمر إذا ما فكر أحد في تفكيك مستوطنات الضفة الغربية التي تضم حوالي 400 ألف مستوطن؟ وهو أيضا القول: إذا كان نقل 8 آلاف مستوطن يكلف ملياري دولار نفقات وتعويضات للمستوطنين، فكم هي المبالغ اللازمة لنقل 400 ألف مستوطن من الضفة الغربية؟، والاستنتاج الذي يريد شارون الوصول إليه هو أن الخروج من غزة وتفكيك مستوطناتها تضحية كبيرة تقدم عليها إسرائيل، أما الخروج من الضفة الغربية وتفكيك مستوطناتها فهو أمر مستحيل. وحين يكون الأمر على هذه الصورة، فإن الحل السياسي، والمفاوضات السياسية، والحلول السياسية المقترحة منذ مؤتمر مدريد عام 1991، ومنذ اتفاق اوسلو عام 1993، تصبح كلها لاغية وخارج الموضوع، فليس هناك تطبيق محتمل للقرار 242، وليس هناك عودة إسرائيلية إلى حدود 1967، وليس هناك تنازل عن الأراضي التي استولت عليها إسرائيل في الضفة الغربية، وليس هناك تراجع عن قرار ضم القدس بكاملها إلى دولة إسرائيل، وعلى من يقبل هذه الشروط من الفلسطينيين أن يتقدم ليضع توقيعه عليها، أي أن يتقدم ليضع توقيعه على الحل الإسرائيلي المفروض، وليس على الحل المتفاوض عليه.

لا يوجد طبعا أي فلسطيني يمكن أن يقبل هذه الصيغة، لكن المفاجأة كانت حين أقدمت الولايات المتحدة الأميركية، وعلى مستوى رئيسها جورج بوش، على قبول هذه الصيغة وتبنيها والترويج لها، وذلك حين قدم بوش لشارون في العام الماضي، موقفا أميركيا فريدا من نوعه، انحاز فيه إلى المطالب الإسرائيلية بالكامل، معلنا:

* أنه يؤيد بقاء المستوطنات في الضفة الغربية ولا يتصور إمكانية التخلي عنها.

* أنه يؤيد موقف إسرائيل الرافض للعودة إلى حدود 1967.

* أنه يؤيد عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

وبذلك يكون بوش قد حسم أمر المفاوضات حول ما يسمى الحل النهائي، بينما هو يطنطن بشكل دائم في الحديث عن شعاره القائل بـ «قيام دولتين متجاورتين، إسرائيلية وفلسطينية، تعيشان بسلام». وعلى ضوء موافقات بوش السابقة على المطالب الإسرائيلية، فإن الدولة الفلسطينية التي يتحدث عنها، ستقوم على ما تبقى من الأرض، وما تبقى من الأرض هو عبارة عن مساحات مقطعة ومجزأة، هي الصورة التطبيقية والعملية لما يعرف بالكانتونات، الكانتونات التي يستعد بوش ليسميها دولة.

وبحسب هذه الصورة، وبسببها، يقول رئيس المخابرات الإسرائيلية العسكرية، إن الانتفاضة الفلسطينية ستتجدد في شهر آذار (مارس) المقبل (2006)، إذا لم يتم إجراء مفاوضات سياسية، وهو يحدد هذا الموعد لأنه سيشهد إكمال الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، كما سيشهد إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي ستشارك فيها حركة «حماس» لأول مرة. أما فلسطينيا، فإن هذا التوقع الإسرائيلي منطقي تماما، فالمخطط الإسرائيلي يرسم على الأرض كل العوامل الموضوعية التي تؤدي إلى تجدد الانتفاضة ضد الاحتلال، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. ففي الضفة الغربية: مستوطنات، واستيلاء على نصف مساحة الضفة، وإخراج للقدس من دائرة المفاوضات، وبناء للجدار العازل، ورفض لمبدا عودة اللاجئين الفلسطينيين، وكانتونات تكون بديلا للدولة المستقلة. وفي قطاع غزة: لم تعلن إسرائيل حتى الآن ما إذا كانت ستتخلى عن السيطرة على المعابر (معبر رفح مع مصر)، حيث تنقل الناس وتنقل البضائع. ولم تعلن إسرائيل حتى الآن موافقتها على إعادة بناء المطار الفلسطيني الذي دمرته من دون سبب. ولم تعلن إسرائيل حتى الآن موافقتها على بناء الميناء البحري أو استعدادها لرفع السيطرة عن المياه الإقليمية الفلسطينية، وهو واقع يعني، وبالمعنى الاستراتيجي، أنه لن يكون هناك انسحاب عسكري إسرائيلي من قطاع غزة، بل مجرد إعادة انتشار للجيش الإسرائيلي، ثم تواصل إسرائيل بعد ذلك محاصرة القطاع وفرض سيطرتها الاستراتيجية عليه. إنها حالة حصار تحول غزة إلى سجن كبير. ويزيد من حراجة الوضع أن إسرائيل تماطل حتى الآن في الموافقة على أية صيغة مطروحة لإنشاء «الممر الآمن» بين قطاع غزة والضفة الغربية، الأمر الذي يثير مخاوف فعلية من أن يكون الهدف الإسرائيلي هو: ترك الفلسطينيين ينشئون دولة مستقلة محاصرة في قطاع غزة، بينما تكون كانتونات الضفة الغربية تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة.

في قلب هذه الصورة المظلمة، تلوح كوة مضيئة تشيع الفرح في قلوب الفلسطينيين، فها هو الجيش الإسرائيلي سيغادر القطاع إلى خارجه، وها هي الحواجز التي كانت جزءا رئيسيا من عذابهم اليومي، ستزول، وها هي منطقة المواصي تنفتح أمامهم هي وبحرها ليذهبوا إلى شاطئه بحرية، وها هي المستوطنات، الحجر الأساس في العقيدة الصهيونية، تتفكك للمرة الثانية بعد تفكيك مستوطنة «يميت» في سيناء، وتزول عن الأرض الفلسطينية. ويدرك الفلسطينيون أن كل هذا يحدث نتيجة لنضالهم، ونتيجة لانتفاضتهم، ونتيجة لصمودهم وعنادهم وإصرارهم على البقاء في الأرض، حتى بعد كل عملية قصف وتدمير وتجريف للبيوت. يدرك الفلسطينيون أن سلاحهم البسيط استطاع توجيه هزيمة للجيش القوي، وأن إرادتهم وصلابتهم استطاعت أن تهزم إرادة شارون ووحشيته. وحين يخرج الفلسطينيون إلى شوارع غزة ورفح وخان يونس، للتعبير عن فرحهم وبهجتهم، فلأنهم يستحقون لحظة الفرح هذه بعد ذلك العناء الطويل.

إن البعض في الساحة الفلسطينية لا يقبل هذا الفهم للأمور، يميل إلى القول بأن الانتفاضة الفلسطينية ألحقت المآسي بالشعب الفلسطيني. لكن.. ولحسن الحظ، فإن إسرائيليين بارزين ينقضون هذه الأقوال الفلسطينية ويعلنون «إن الفلسطينيين انتصروا بالنقاط في نهاية السنوات الخمس الأخيرة من الانتفاضة الثانية»، ويعلنون «ان إجراء مقارنة بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، يعطي أفضلية للفلسطينيين»، ويعلنون «نجح الفلسطينيون في أن ينحتوا في الوعي الإسرائيلي عدم جدوى المشروع الاستيطاني، والاعتراف بمحدودية القوة، وأهمية الشرعية الدولية». (ألوف بن ــ هآرتس ــ 15/8/2005).

أمام هذه الصورة المتناقضة، حيث يلوح الفرح في جانب، والمخططات الشرسة في جانب آخر، ستبدأ بعد غزة المعركة الأصعب في الضفة الغربية. وسيكون الفلسطينيون بالطبع جنود الصف الأول في هذه المعركة، لكن مسؤوليات جسيمة أخرى تقع على عاتق الحكومات العربية، فمعركة الفلسطينيين دفاعا عن الضفة الغربية، وعن القدس، وضد الجدار العازل، تحتاج إلى تحرك سياسي عربي ضاغط، ويشكو الفلسطينيون بحق من غياب هذا الضغط، ويشكون أكثر من إقدام بعض الدول العربية على مواصلة التطبيع مع إسرائيل، فيشعر شارون أنه يشتط في سياساته التدميرية، بينما هو يتلقى مكافآت عربية، على صعيد الغاز، والمزارع المشتركة، ومشاريع الكويز التجارية، وتبادل الزيارات. ومن الممكن عربيا أن يبدأ الضغط حول موضوع الجدار العازل، حيث قرار الإدانة والدعوة لإزالة الجدار، موجود في قرار محكمة العدل الدولية، الذي تم بناء على طلب من الأمانة العامة للأمم المتحدة.

فهل يبدأ العرب هذه المعركة السياسية لدعم المعركة النضالية التي سيواجهها الشعب الفلسطيني؟.. هذا هو سؤال الأشهر المقبلة.