العرب بين ديبلوماسية العنف وديبلوماسية السياسة

TT

أمام مشهد الانسحاب الاسرائيلي المُزري من غزة، يخطر في الذهن العربي العام القول بأن العنف الديني أجدى وأنفع للعرب وللمسلمين من الكفاح السياسي. لا شك أن الفلسطيني الغَزِّي يمتلك الآن اقتناعا بأن لولا صواريخ «حماس» و«الجهاد» وعملياتهما الانتحارية في العمق الاسرائيلي، لما تراجع الحلم التوراتي عن رمال القطاع المحتل.

هناك تصور شعبي عام أوسع. هناك اعتقاد تشكل ويتشكل بأن الغرب لا يفهم غير لغة القوة، وإلا لما كان هذا الاهتمام العالمي المفاجئ بالإسلام، وبالقضايا العربية، وفي مقدمتها الصراع العربي ـ الاسرائيلي، والوضع في العراق.

من هذا التصور العفوي الشائع، ينطلق الاتهام الشعبي للنظام العربي بأن اعتماده ديبلوماسية السياسة، في التعامل مع الغرب واسرائيل، حقق فشلا ذريعا في خدمة القضايا العربية، وإثارة اهتمام الغرب بها، ووقف انحياز أميركا للدولة اليهودية.

وبناء على هذا الاتهام للدولة والنظام، ينطلق أئمة ودعاة العنف الديني من الخرائب والمغاور، أو من الخلايا السابحة في بؤر اجتماعية متعاطفة معهم، في التحريض على ممارسة العنف الديني: ضد الغرب «الكافر» والظالم. ضد النظام العربي «المتهاون» و«المتعاون». ضد «جاهلية» المجتمعات العربية. وهكذا، فقتل وذبح المدنيين جائز في شرع «الاجتهاد الانتحاري»، سواء كانوا «كفارا» في المجتمع الغربي، أو غارقين في «جاهليتهم» في المجتمع الجزائري أو العراقي...

بل تجاوز هؤلاء التحريض على العنف الى تكفير وإدانة أية عُرى يمكن ان تجمع بين الإسلام والفكر السياسي الغربي. بات مسموحا لابن لادن وشيخه الظواهري الاطلالة من الشاشة العربية، لاستغلال عدم اهتمام المجتمع بقيم الحرية، في زندقة التعددية السياسية، وإيهام عامة المسلمين بأن الشورى ليست هي الديمقراطية.

وصل الخلط بين العنف والإرهاب في اجتهاد بعض أئمة التلفزيون، المحسوبين على «الاعتدال المنفتح»، إلى مباركة المقاومة (الدينية) في العراق التي تقتل العراقيين المسلمين، شيعة وسنة وأكرادا، بالعشرات يوميا. وإلى الآن، لم يرتفع صوت للمؤسسة الإخوانية في مصر وغيرها لإدانة القتل الجماعي في المجتمعات العربية والإسلامية المستباحة. تأتي الإدانة دائما «مشكولة» ومعللة بـ «ظلم الطاغوت»، وكأن لا فرق بين القمع الذي يمارسه النظام والذبح الذي ترتكبه المنظمة.

صحيح أن «حماس» غير «القاعدة»، لكن كلتيهما انبثقتا بشكل قريب أو بعيد من المؤسسة الإخوانية المتقشفة. التزمت الإخواني في التفسير وَلَّدَ وفَرَّخَ، مع الوقت، تنظيمات أكثر تزمتا وتشددا وتطرفا، وإن كانت الغاية واحدة، وهي إقامة الدولة الدينية المنغلقة على ذاتها. بل كان الإخوان سباقين الى اعتماد ديبلوماسية العنف في التعامل مع النظامين الملكي والجمهوري. ولم يتراجع الإخوان عن تلك الديبلوماسية إلا بعد التجربة المريرة مع عصا السلطة والنظام.

على صعيد التنظير، وُلِدَ مبدأ «الجاهلية» و«الحاكمية» في رحم الفكر الإخواني بعد الاطلاع والنقل عن إسلام الحصار الاقلوي في الأدب الديني الهندي والباكستاني، كما هو معروف. انه سيد قطب الذي يكاد يكون المفكر والمثقف السياسي والاجتماعي الوحيد الذي انتجه الإخوان، هو الذي نادى بـ «جاهلية» المجتمع، وردِّ الحكم إلى «الحاكمية» الإلهية.

الجاهلية والحاكمية تندرجان في صميم ديبلوماسية العنف الديني. جاهلية المجتمع حللت ذبحه لاعادة أسلمته. الحاكمية فسرت الماء بالماء، ولوحت بإعادة انتاج الدولة الإسلامية التي أسندت الى «الامام المعصوم» أو الى «أمير المؤمنين» تكييفهم اجتماعيا ودينيا، بحجة انه وحده المخول بتطبيق «شرع الله» وتفسيره، بلا حاجة الى اجتهاد أو تفسير ديني آخر.

وهكذا، فالبشر يحكمون البشر باسم الله! ألم تكن طالبان هي الدولة «المثالية» للجاهلية والحاكمية؟ أليست هي النظام الذي انتهى اليه الاجتهاد التكفيري في التعامل مع المجتمع والعالم بديبلوماسية العنف التي أدت الى سقوطه السريع بتدخل قوى «الكفر» الأجنبي، من دون أن تنقذه «الحاكمية» الإلهية التي اسبغها عليه «أمير المؤمنين» الملا عمر ومفتيه الشيخ أسامة؟

لست بمبالغ أو ظالم في تقديم هذه الصورة لديبلوماسية العنف في الاجتهاد الديني العصابي. لا شك انها صورة كئيبة أو مروعة، لكني لا أبتكرها، إنما الخص رؤى أئمتها ودعاتها ورؤى المفكرين الحداثيين لها. كل ما فعلت أني أقدمها بصيغة مبسطة للغاية، الى رأي عام يكتفي بقراءة الصحافة أو مشاهدة التلفزيون.

بعد ذلك كله، إذا كان لي من تدخل في هذا الموضوع الدقيق الذي أثيره، فهو لمقارنة ديبلوماسية العنف بديبلوماسية السياسة. وأقول سلفا إن إلغاء السياسة أدى إلى نتائج سلبية، سواء على التنظيم الديني، أو على النظام الرسمي.

في الفكر السياسي، لكل مقاومة أو ثورة هدف سياسي، وإلا باتت كلتاهما مجرد عنف دموي عبثي ومأسوي. إلغاء مجاهدي الشيشان منطق السياسة التفاوضي، مكَّنَ الروس من تدمير البنى الأساسية اللازمة لدولة مستقلة مستحيلة في الظروف الراهنة، وضحى بـ 160 ألف قتيل ثلثاهم من الشيشان أنفسهم، بحيث بات الثمن البشري المدفوع يفوق قيمة الاستقلال الممنوع.

الصورة الشيشانية الجهادية تنسحب، بحدود، على الحالة الفلسطينية. تجريد «حماس» و«الجهاد» عملياتهما الانتحارية من منطق السياسة والديبلوماسية أدى الى نتائج كارثية: وصول اليمين الصهيوني الى الحكم ممثلا بنيتانياهو ثم شارون. تضييق الأمل في اقامة دولة فلسطينية حقيقية، وتدمير بناها الأساسية اللازمة لها. استحالة تحقيق شعار حماس في تحرير الأرض «من النهر الى البحر»، بحيث يبدو الآن نوعا من الأدب الرومانسي الذي يذكر بشعارات الشقيري والحاج أمين الحسيني. أخيرا، تمكين العدو وأميركا من دمغ المقاومة الفلسطينية الدينية بـ «الإرهاب» وبقتل المدنيين، أمام عالم بات أكثر حماسة لحماية المجتمع المدني من العنف الجماعي.

مع ذلك وبأمانة فكرية تامة، أعترف بأن الحيرة تنتابني عندما تلغي ديبلوماسية السياسة ديبلوماسية العنف، وبالذات عنف المقاومة المشروعة. الكفاح السياسي لم يحرر الأرض العربية المحتلة في سورية (الجولان) وفي فلسطين (الضفة وغزة). من هنا، يبدو محمود عباس، أكبر دعاة الديبلوماسية السياسية العرب، خرافيا ومثاليا ساذجا، في محاولته تجريد «حماس» من سلاحها، فيما ما تزال الضفة محتلة وأرضها مهددة بتوسع استيطاني يضيِّق كثيرا حلمه السلمي بدولة فلسطينية يمكن التفاوض عليها، مع شارون أو نيتانياهو أو حتى مع بيريز وباراك، بديبلوماسية السياسة المجردة من ديبلوماسية العنف.

في المقابل، فقد أسقطت الجهادية المهاجرة منطق السياسة في التعامل مع المجتمعات الغربية التي أوتها وحضنتها ومنحتها حرية العمل السياسي، وربما العنفي، ضد النظام العربي. كان إرهاب هذه الجهادية في عماها السياسي وبالا عليها وعلى ملايين المهاجرين العرب الأبرياء والمسالمين، بعدما لجأ النظام الديمقراطي الغربي الى شرعية الأمن، في مواجهة العنف الديني اللامشروع.

لقد حققت تاريخية الكفاح العربي اللاديني دولة الاستقلال باعتماد ديبلوماسية السياسة والتسوية الممزوجة بديبلوماسية العنف المسلح النبيل الذي جعل المقاومة الوطنية تستهدف البنى العسكرية للاحتلال الأوروبي لا مجتمعاته المدنية. المأساة تكمن في ان إسقاط النظام العربي الاستقلالي لديبلوماسية السياسة في التعامل الديمقراطي مع مجتمعاته، كان سببا من أسباب إلهاب النخب الدينية واعتمادها ديبلوماسية العنف.